الكنائس والأديرة العراقية  / الدكتور علي ثويني

Posted by on Aug 24, 2021 in Library, دراسات سريانية | Comments Off on الكنائس والأديرة العراقية  / الدكتور علي ثويني

 

 أصابنا الأسى ونحن نتابع الإرهاب المجنون وهو يعيث فساداً ، فبعد أن قتل الأبرياء في العتبات المقدسة ، نجده اليوم يفجر حقده الأعمى في بيوت الله من كنائسنا العراقية ، بما يثبت مثل كل مرة أن تخبطه الأعمى قد أخرجه من سوي العقل ولبيب المنطق ، بعد أن تجرد نهائياً منذ أول جريمة أقترفها من الأخلاق والدين . ونقرأ من رسالته الدموية هذه العداء السافر لكل ماهو عراقي ، وإسلامي وإنساني . فالمسيحيون أخوة في الوطن ونظراء في الخلق ، ولم نجد من حلل قتلهم من الأولين والآخرين ، وأن كنائسهم كانت وستبقى عهدة في رقابنا إقتداء بالعهدة العمرية لنصارى القدس ، وأن رسولنا الكريم أستقبل نصارى نجران في المسجد النبوي الشريف وأرسل أول مهاجريه الى النجاشي النصراني .

لم يع هؤلاء الظالمون أن النصرانية لم تأت من روما قطعاً ، ولم تطأ أوروبا إلا بعد ثلاثة قرون من الويل والثبور كان قد أصاب النصارى والموحدين من أهل الشرق .  ولم تلد اليونان يسوعاً حتماً وإنما كانت الناصرة وبيت لحم والقدس . ولم تكن المسيحية إلا وحدانية إسترسلت في ارض كنعان ، من وحي إبراهيم ونهل أور العراقية ، وحملت في ثناياها نتاج تراثنا الروحي التوحيدي ، الذي وطأته منذ البشارة ، بعد أن حلّ بها الحواري  توما حسب روايات الكلدان وخاصة يوسف السمعاني فإن إنتشار المسيحية في العراق جاء على يده . وكذلك  برتلماوس ، وثلاثة مبشرين أدّي وتلميذيه أجّي وماري ، وترجح الروايات كون الأول أحد تلاميذ السيد المسيح عليه السلام  .

وعلى خلاف مسيحيي الشرق في دول الجوار الذين عانوا من الحروب الطائفية الأهلية ، فأن مسيحيي العراق كانوا متآخين مع أخوتهم في الطيف العراقي . وماحدث للآشوريين من مذابح على يد بكر صدقي في بواكير العهد الملكي ، لم يكن إلا موقفاً قومياً مسيّساً أتخذته السلطة الملكية وأستغلها صدقي نفسه بعيداً عن أية دلالات طائفية نائية عن قاموسنا الاجتماعي . ولم نسمع عن أحزاب مسيحية سابقة أو تدخل للكنيسة في الشأن السياسي أوممارسة لإنقلابات عسكرية بالرغم من أن الكثير منهم تبوأ مناصب عسكرية سامية . وقد أستثمرت سلطة البعث حربها ضد إيران لمغازلة الغرب حينما شرعت بمعاضدة بناء الكنائس أو صيانتها ، بما أوحى أنهم سلطة متفتحة تحارب سلطة متحجرة . أن أُستغل أسمهم جزافاً في إستجداء بيانات التعاطف الغربية خلال سنوات الحصار في التسعينات ، وأستغل أسم طارق عزيز وبعض أقطاب السلطة المبادة ذلك ، لم يكن إلا محض مكيدة أريد منها الإيحاء بأن هؤلاء طابور للغرب في العراق . وربما يكون هذا قد ترك أثراً في نفوس رعاع القوم وجهالهم وسفهائهم ، حينما أنطلت عليهم المسوغات ، وجعلهم في التسعينات يصبون جام غضبهم على أخوتنا النصارى ويضطهدونهم بمبرر  الحملة الإيمانية  الواهية التي كانت من أمهات الدجل البعثي .

وفي أخبار التاريخ نجد أن نصارى العراق لم يشكلوا شريحة خاصة متقوقعة ، بل كانوا أكثر عراقية ، ونجدهم قد عانوا من مناخات السياسة وظلموا من الساسانيين والبيزنطيين ، وتذكر أحداث التاريخ أن سابور  شاهبور  قد قتل منهم 160 ألف ، خلال حكمه الطويل .

وكان النصارى قبل الإسلام يتكلمون اللغة السريانية  الآرامية  وبعضهم في الحيرة يتكلمون العربية اضافة الى السريانية ، اما الفارسية ) البلهلوية ( فكانت محصورة فقط بالجهاز الاداري الحاكم . اما طبقاتهم ، فهم أما سكان مدن ، أو فلاحين أو رعاة في البوادي . وأعتنقت قبائل عربية المسيحية ومنها أياد وكندة ولخم . ومن أكثر من وردت مناقبه من العراقيين حنا الكسكري الذي بنى أول دير في البرية ، وكسكر التي ينتمي إليها هي في موضع  قلعة سكر اليوم . ومنهم من أكتسب حظوة كما هو حال القديس سمعان القديم المولود عام 360م الذي تكلم عنه تاودوريس أسقف قورش ونسب إليه كرامات كما لحق فيما بعد بالمتصوفة المسلمين ، ونقل أن زوجة الملك أردشير قد شفت من مرض عضال بشفاعته ، جعلها تطلب من زوجها الكف عن إضطهاد مسيحيي العراق . .

ومن أهم الشخصيات التي تركت أثرها في التاريح العراقي مارية التغلبية ، ولقبت بماء السماء ، لرقة طباعها ودماثتها ، وحتى أن إبنها المنذر الثالث 513 -562 لقب بإبن ماء السماء ، وإبنه سمي بعمرو إبن هند حكم بين أعوام 562 -574م . وهند هذه تركت أكبر أثر في ديرها الذي مكث ردحا من الزمن بعد الإسلام . وهي هند بنت عمرو بنت مجر الكندي ، كما ذكر ذلك ياقوت في معجمه . ولها قصة مع سعد إبن ابي وقاص ، وكذلك المغيرة بن شعبة الذي خطبها لما تولى الكوفة ، فردته رداً جميلاً وماتت على رهبانيتها . ويحكى عن عمرو أنه قَتَلَ في ثماله نديميه المقربين عمرو بن مسعود وخالد المظلل ، وأقام على قبريهما غراييب أو طربالين وهي برج عال أو  مسلة  عظيم ، لم نجد لها اليوم أثراً .

وأنتشرت الأديرة في أواخر القرن الرابع في أطراف العراق ، وقادها عراقيون ربطوا بين الإيمان والعلم  الفكر العرفاني أوالغنوصي . ويمكن أن يكون  أوكين  العراقي هو من نشر الرهبنة في منطقة الجزيرة وعموم العراق ، ومن تلامذته الراهب  يونان أو يونس  الذي شيد دير مار يونان في الأنبار ، وكذلك دير يونس القابع في الموصل . ومن الجدير ذكره أن يونس هذا كان طبيباً وفيلسوفاً ، ووصل إلى الزهد والتقشف بمحض أفكاره ، التي يمكن أن تكون من تاثير البيئة نفسها التي أظهرت الزهد والتصوف الإسلامي فيما بعد ولاسيما على مذهب رابعة العدوية البصرية . كما تولى الراهب عبدا  بناء دير كبير في درقان بعد أن حصل على رخصة من حاكم المدائن تّموز ، ثم بنى تلميذه عبد يسوع دير الصليب ودير باكسايا ودير آخر على الفرات .

 وفي القرن الخامس ظهر القديس ماروثا الذي شفى ابنة أردشير الثاني فجعل أباها يسمح لهم بنشر النصرانية بين العجم ، وقد بني بسببها أعداداً كثيرة من الأديرة في العراق .

 وطفق العراقيون في بناء الأديرة في كل الأنحاء وأشهر ماوردت أخبارها : دير أشموني قرب بغداد ، ودير الزّندورد الواقع في منطقة المربعة في الرصافة في شرق بغداد ، ودير دُرتا غربي بغداد ، ودير سابور غربي دجلة ، ودير سمالو ودير الثعالب قرب بغداد عند منطقة الحارثية في الكرخ ، ودير مديان على نهر كرخايا الخير اليوم في كرخ بغداد ، وكذلك دير مار جرجيس قرب بغداد ،  ودير كليليشوع المجاور لمقبرة الشيخ الصوفي معروف الكرخي في الكرخ ، ودير سمالا الواقعة في منطقة الشماسية الأعظمية اليوم ، ودير باشهرا  بين بغداد وسامراء معناها بيت أو مدينة القمر ، وديرالسهٌوس ، ودير مارفثيون ودير سرجيس قرب سامراء ، ودير العاقول بين المدائن والنعمانية ، ودير العجاج على تخوم منخفض الثرثار ، ودير القياره عند الموصل وديرباعربا بين الموصل والحديثة على دجلة معناه بيت أو مدينة الماء ، ودير ميخائيل ، ودير الخنافس على تلة تشرف على دجلة على تخوم نينوى ، ودير الخوات في عُكبرا ، ودير كوم عند الموصل ، ودير يوسف ودير مار إيليا شرق الموصل ، ودير الأعلى بالموصل على جبل مطل على دجلة في قلعة باشطابيه قرب المستشفى الجمهوري اليوم ، ودير ملكيساوا فوق الموصل ، ونجد بيت عذري المعروف بجبل القوش الذي أحتفظ ببعض الصوامع المنقورة في الجبل وعددها 400 ، والتي تذكر بالهيئات الأولى للعمائر المسيحية ، ونجد كذلك  على تخوم القوش شمال الموصل دير هرمزد ، وبني كذلك  دير السيدة الذي يعتبر من أكبر ديارات الكلدان وبنائه الحالي بني عام 1858 . وللكاثوليك السريان يوجد دير مار بهنام الواقع جنوب شرقي الموصل .  ومن أهم ديارات السريان وأقدمها دير مار متي الواقع على جبل مقلوب شرق الموصل ، والذي يعود الى المئة الميلادية الرابعة . والظاهر أن منطقة الموصل قد أحتفظت بجلّ الأمثلة مع وجود أديرة آخرى  بالقرب من مدينة بلد ، وديرماري عند سامراء ، وديرمار يوحنا قرب تكريت ، ودير الجرعة بالحيرة ، ومن أشهر الأديرة العراقية هي الثلاثة التي شكلت قلب مدينة الكوفة ، وأهمها دير هند بنت المنذر بن ماء السماء . وآخر في النجف بين قصري أبى الخصيب والسدير ، وديري الأسكون بالحيرة ، وثمة ديرقرب واسط ودير هزقل عند البصرة ، ودير الدهدار بنواحي البصرة ، ودير الأبلق في الأهواز . ومن المحتمل أن يكون قصر الأخيضر احد تلك الأديرة التي تغير حالها وأضيفت لها الملحقات الإسلامية وطبعت هويتها ، كما أكدته المس بل عام 1911 . ومازال لغط يدور حول قلعة بازيان قرب السليمانية ، وكل الدلائل البحثية تشير إلى أنها دير عراقي محض وليس قلعة كما يدعي بعض المدعين ، بما يؤكد وسع إنتشار ذلك النوع من العمائر في العراق القديم .

دير مار متي في الموصل

 وذكر اليعقوبي في مؤلفيه التاريخ والبلدان بصدد سامراء : “ كان في ( سر من رأى ) متقدم الايام صحراء من أرض الطيرهان لاعمارة فيها وكان بها دير للنصارى “ بالموضع الذي صارت فيه دار السلطان المعروفة بدار العامة . ويكرر ذلك كل من الشابشتي حين يذكر دير السوسي ودير مرمار جنوب سامراء وياقوت نقلا عن البلاذري وأكد أسمه دير مر جرجيس وعيّن موقعه شمال مدينة بلد بـ 15كلم ، وكذلك دير عبدون في المنطقة نفسها .

والدير يعني البيت الذي يتعبد ويقطن ويتعايش فيه الرهبان . والكلمة واردة من كلمة دار السامية ، والجمع أديار والديراني صاحب الدير ويقال دير وأديار وديران ودارة ودارات وديرة مازالت تستعمل في الجنوب العراقي والجزيرة والخليج  .

وما بني من العمائر المسيحية في الحواضر والمدن والقرى فيعتبر كنيسة ، وظهرت ملامح أولى الكنائس والاديرة في العراق على سجية العمائر في نوعيها البابلي في المناطق الرسوبية ، والأشوري في مناطق التلال والجبال . وأقدم الكنائس العراقية كما ورد في بعض المراجع السريانية هي كنيسة كوخي العظيمة التي أقامها مار ماري في المدائن سلمان باك ، التي كانت تعتبر مركز المرجعية النسطورية الملقب بالجثليق كنيسة بابل . وفي الفرتة العباسية انتقلت المرجعية الى بغداد بعيد تأسيسها . ومنذ القرن الثاني الميلادي ، طفق العراقيون في إشادة كنيسة في كل قرية ومدينة ، من شمال العراق حتى اقصى جنوبه . وكل منها كنيت بأسم قديس أو سميت بتذكار ديني . وقد اكدت الحفريات التي قامت بها البعثة الألمانية في أطلال سلمان باك وجود آثار كنيسة فيها ، وذهبت الى تقدير إنشائها الى المائة السادسة للميلاد .

وأقدم الكنائس الباقية اليوم تدعى الطاهرة الفوقانية وتقع شمال شرقي الموصل ، على مقربة من باش طابية على ضفاف نهر دجلة ، الذي كان فيضانه وبالا عليها ، بالرغم من الترميمات وأخرها الذي جرى عام 1743 . وتكتنف الموصل كذلك كنيسة شمعون الصفا في محلة مياسة التي يعتبرها البعض أقدم كنيسة عراقية باقية منذ القرن الثالث الميلادي .

ويمكن إعتبار بغداد من أهم المواقع التي شغلتها العمارة المسيحية قبل تأسيسها الإسلامي عام 762م ، حيث للتسمية الأرامية بيت غدادو أي بيت الغنم أوالمرعى ، ربما  يؤكد صفتها الأولى الذي يعتبر أحد ما ذهب إليه الباحثون . وقد وجدت الكنائس في غربها الكرخ ثم انتقلت إلى رصافتها تباعا ، وأقدمها التي كانت بجوار بغداد المدورة في محلة المنطكه حالياً ، وكذلك في محلة العقبة المعروفة اليوم محلة الشيخ صندل كما سكنوا في محلة قطفتا وهي محلة المشاهدة الحالية . ومن أكبر كنائس بغداد كانت على تخوم المشهد الكاظمي اليوم شمال بغداد في محلة البحية الحالية ، وتطورت هذه الكنيسة حتى أصبحت مجمعاً كنسياً أو ديراً كبيراً جاء وصفها لدى المسعودي ، وذكرها ياقوت الحموي واصفاً إياه حسن العمارة ، كثير الرهبان ، وله هيكل في نهاية العلو ، وعلى تخومه موقعه اليوم مدينة الحرية كانت  بيعة سونايا ، ثم صار يدعى بـ الدير العتيقة .

وبعد إنتقال العراقيين النصارى إلى الرصافة متماشين مع توسع بغداد اللاحق ، وما حل في الكرخ من خراب بعد الفتن وحروب الأمين والمأمون ، حيث انتقلوا إلى شمال المدينة الاعظمية اليوم بما كان يدعى الشماسية منحدرا من أسم شماس وهو القس النصراني ،حيث يقول ياقوت فيها : الشماسية منسوبة الى بعض شماسي النصارى ، وهي مجاورة لدار الروم التي في أعلى مدينة بغداد ، وإليها ينسب باب الشماسية باب المعظم وفيها كانت دار معز الدولة البويهي . . وهي أعلى من الرصافة ومحلة أبي حنيفة . وفي دار الروم حاليا حي صليخ ، كانت قد أنشئت أهم الكنائس بيعة درب دينار التي بقيت قائمة حتى العام 1333م إبان الدولة الإيلخانية . وكانت تقع هنا أكبر كنائس المشارقة في دار السلام وهي بيعة السيدة مريم ، وقد ذاع صيتها في البلدان لما احتوته من رسوم إيقونية كان يمكنها أن تنقل لنا ملامح عن فنون مدرسة بغداد في الرسم على الحيطانالفريسكو ، من الحضارات الرافدية . وقد بقيت  محلة في ذلك الجانب تدعى رأس الكنيسة تقع قرب الميدان اليوم ، حتى حلول التغييرات المعاصرة في بنية بغداد الحضرية .

واليوم توجد الكثير من الكنائس في أرجاء بغداد تتبوأ كنيسة الأرمن موقع الصدارة في الباب الشرقي ، وهي حديثة البناء ومبنية على الطراز الأرمني التقليدي . ومن أكثر الكنائس قدماً وهيبة هي كنيسة اللاتين أو السيدة العذراء الواقعة في الشورجة على شارع الخلفاء مقابلة لمسجد الخلفاء المحتضن لمنارة سوق الغزل في حي صبابغ الآل . بنيت هذه الكنيسة بين أعوام 1860-1871 . وكان يلتقي في هذه الكنيسة وما الحق بها الأب العالم أنستاس الكرملي بطلابه وأحبابه من كل الملل ، حتى وافاه الأجل ودفن في باحتها . وقد مرت تلك الكنيسة بويلات كثيرة كان أكثرها إيلاماً إحراقها من قبل الجيش التركي ضمن ما حرق عند إنسحابه من بغداد بعد خسارته الحرب العالمية الأولى . وأعيد ترميمها عام 1920 ، واستمر حالها مترنحاً حتى أستملكتها الحكومة العراقية عام 1956 ، حيث بقيت حتى العام 1966 عندما اغلقت لمدة عقد من الزمان ، حيث وهبتها الحكومة العراقية عام 1976 للأقباط المصريين الذين بدأ عددهم يتزايد في بغداد حينئذ .

وعلى العموم فأن عمارة الكنائس العراقية وتاريخها يستاهل من الباحثين الخوض فيه وإثرائه بالبحث والتدوين والرسم ، والتحليل والمقارنة . وأملنا أن لا يكون رد فعل بعض الأخوة أكبر من الفعل الشنيع للإرهابيين ، ويلصقوا الأمر بالإسلام الحنيف ، أو يتخلوا عن عراقيتهم الخالدة .

This article first appeared in Mesopotamia .