الدولة التاسعة ٢ – ٢ : المنتقلة إلى ملوك العرب المسلمين من ” المقتدي بن محمد بن القائم “…. الى المستعصم غريغوريوس ابن العبري

Posted by on Sep 7, 2022 in Library | Comments Off on الدولة التاسعة ٢ – ٢ : المنتقلة إلى ملوك العرب المسلمين من ” المقتدي بن محمد بن القائم “…. الى المستعصم غريغوريوس ابن العبري

” المقتدي بن محمد بن القائم ”
لما توفي القائم بأمر الله بويع عبد الله بن محمد ابن القائم بالخلافة ولقب المقتدي بأمر الله سنة سبع وستين وأربعمائة. ولم يكن للقائم من أعقابه ذكر سواه فإن الذخيرة أبا العباس محمد بن القائم توفي في أيام أبيه ولم يكن له غيره وكان المقتدي حملاً في بطن أمه فولد بعد موت أبيه محمد بستة أشهر. وفي سنة ثماني وستين سار اقسيس الخوارزمي وهو أحد الأمراء من عسكر السلطان ملكشاه إلى دمشق فحصرها فغلت الأسعار فبيعت الغرارة بأكثر من عشرين ديناراً فسلموها إليه بالأمان وخطب بها للمقتدي الخليفة العباسي وكان آخر ما خطب فيها للعلويين المصريين. وتغلب اقسيس على أكثر الشام. وفي سنة أربع وسبعين توفي نور الدولة دبيس الأسدي وكان عمره ثمانين سنة وإمارته سبعاً وخمسين سنة وكان مذكوراً بالفضل والإحسان. وولي بعده ما كان إليه ابنه منصور ولقب بهاء الدولة فأحسن السيرة وسار إلى السلطان ملكشاه فاستقر له الأمر وخلع الخليفة أيضاً عليه ثم مات في سنة تسعٍ وسبعين وولي الحلة والنيل وجميع ما كان له ابنه سيف الدولة صدقة. وفي سنة خمسٍ وثمانين قتل نظام الملك الوزير بالقرب من نهاوند قتله صبي ديلمي من الباطنية أتاه في صورة مستمنح أو مستغيث فضربه بسكين كانت معه فقضي عليه. وبقي نظام الملك وزيراً للسلاطين ثلاثين سنة سوى ما وزر لالب أرسلان وهو صاحب خراسان أيام عمه طغرلبك قبل أن يتولى السلطنة. وكان عمره سبعاً وسبعين سنة. وكان سبب قتله أن عثمان ابن جمال الملك بن نظام الملك كان قد ولاه جده رئاسة مرو وأرسل السلطان إليها شحنة اسمه قودن وهو من خواصه فنازع عثمان في شيء فحملت عثمان حداثة ينه وطمعه بجده على أن قبض عليه وأخرق به ثم أطلقه فقصد السلطان مستغيثاً شاكياً فأرسل السلطان إلى نظام الملك رسالةً يقول له : إن كنت شريكي في الملك فلذلك حكم. وإن كنت نائبي فيجب أن تلزم حد التبعية والنيابة وهؤلاء أولادك قد جاوزا حد أمر السياسة وطمعوا إلى أن فعلوا كذا وكذا. فحضر المرسلون عند نظام الملك وأوردوا عليه الرسالة فقال : قولوا للسلطان إن كنت ما علمت إني شريكك في الملك فاعلم. فإنك ما نلت هذا الأمر إلا بتدبيري ورأيي أما تذكر حين قتل أبوك فقمت بتدبير أمرك وقمعت الخوارج عليك من أهلك وغيرهم. وأنت ذلك الوقت كنت تتمسك بي فلما قدت الأمور إليك وأطاعك القاصي والداني أقبلت تتجنى لي الذنوب وتسمع في السعايات. وقولوا له عني إن ثبات تلك القلنسوة معذوق بهذه الدواة وإن اتفاقهما سبب كل غنيمة ومتى أطبقت هذه الدواة زالت تلك. وأطال فيما هذا سبيله. ثم قال : قولوا للسلطان عني مهما أردتم فقد أهمني ما لحقني من توبيخه وفت في عضدي. فلما خرجوا من عنده اتفقوا على كتمان ما جرى عن السلطان فقالوا له ما مضمونه العبودية والاعتذار. ثم أن واحداً منهم أعلم السلطان بما جرى فوقع التدبير عليه حتى قتل ومات السلطان بعده بخمس وثلاثين يوماً وانحلت الدولة ووقع السيف وكان قول نظام الملك شبه الكرامة له. وقيل أن ابتداء أمر نظام الملك أنه كان من أبناء الدهاقين بطوس وتعلم العربية وكان كاتباً للأمير تاجر صاحب بلخ وكان الأمير يصادره في رأس كل سنة ويأخذ ما معه ويقول له : قد سمنت يا حسن. وهرب إلى جغري بك داود وهو بمرو فدخل إليه فلما رآه أخذ بيده وسلمه إلى ولده الب أرسلان وقال له : هذا حسن الطوسي فتسلمه واتخذه والداً ولا تخالفه. وكان نظام الملك إذا دخل عليه الأئمة الأكابر يقوم لهم ويجلس في مسنده وكان له شيخٌ فقيرٌ إذا دخل إليه يقوم له ويجلسه في مكانه ويجلس بين يديه. فقيل له في ذلك فقال : إن أولئك إذا دخلوا علي يثنون علي بما ليس في فيزيدني كلامهم عجباً وتيهاً. وهذا يذكرني عيوب نفسي وما أنا فيه من الظلم فتنكسر نفسي لذلك فأرجع عن كثيرٍ مما أنا فيه. وكان مجلسه عامراً بالعلماء وأهل الخير والصلاح. وأكثر الشعراء مراثيه فمن جيد ما قيل قول شبل الدولة

كان الوزير نظام الملك لؤلؤةً … يتيمةً صاغها الرحمن من شرفِ
بدت فلم تعرف الأيام قيمتها … فردها غيرةً منه إلى الصدفِ

ثم سار السلطان ملكشاه بعد قتل نظام الملك إلى بغداد ودخلها في الرابع والعشرين من شهر رمضان. واتفق أن خرج إلى الصيد وعاد ثالث شوال مريضاً وكان سبب مرضه أنه أكل لحم صيدٍ فحم فافتصد ولم يستوف إخراج الدم فثقل في مرضه وكانتحمى محرقة فتوفي ليللة الجمعة النصف من شوال فسترت زوجته تركان خاتون موته وكتمته وسارت من بغداد والسلطان معها محمولاً وبذلت الأموال للأمراء واستحلفتهم لابنها محمود وكان تاج الملك وزيرها يتولى ذلك لها وأرسلت إلى الخليفة المقتدي في الخطبة فأجابها وخطب لمحمود وعمره أربع سنين. وسارت تركان خاتون من بغداد إلى أصفهان وبها بركيارق وهو أكبر أولاد السلطان فخرج منها هو ومن معه من الأمراء النظامية وساروا نحو الري. فسيرت خاتون العساكر إلى قتال بركيارق فانحاز جماعةٌ منهم إلى بركيارق فقوي بهم وعاد إلى أصفهان وحاصرها. وكان تاج الملك مع عسكر خاتون فأخذ وحمل إلى بركيارق فهجم النظامية عليه فقتلوه. وكان كثير الفضائل جم المناقب وإنما غطى محاسنه ممالأته على قتل نظام الملك. وفي سنة سبع وثمانين قدم بركيارق بغداد وخطب له بالسلطنة ولقب ركن الدين. وفي سنة سبعٍ وثمانين وأربعمائة خامس عشر محرم توفي الإمام المقتدي بالله فجأةً وكان قد أحضر عنده تقليد السلطان بركيارق ليعلم فيه فقرأه وتدبره وعلم فيه. ثم قدم إليه طعام فأكل منه وغسل يديه وعنده قهرمانته شمس النهار. فقال لها : ما هذه الأشخاص التي دخلت علي بغير إذن. ” قالت ” فالتفت فلم أر شيئاً ورأيته قد تغيرت حالته وانحلت قوته وسقط إلى الأرض ميتاً. وقلت لجاريةٍ عندي : إن صحت قتلتك. وأحضرت الوزير فأعلمته الحال. فشرعوا في البيعة لولي العهد وجهزوا المقتدي ودفنوه وكان عمره ثمانياً وثلاثين سنة وثمانية أشهر وكانت خلافته تسع عشرة سنة وثمانية أشهر وأمه أم ولد أرمنية تسمى أرجوان أدركت خلافته وخلافة ابنه المستظهر وخلافة ابن ابنه المسترشد

***

وفي سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة مات يحيى بن عيسى بن جزلة الطبيب البغدادي وكان رجلاً نصرانياً قد قرأ الطب على نصارى الكرخ الذين كانوا في زمانه وأراد قراءة المنطق فلم يكن في النصارى المذكورين في ذلك الوقت من يقوم بهذا الشأن وذكر له أبو علي بن الوليد شيخ المعتزلة في ذلك الوقت ووصف بأنه عالمٌ بعلم الكلام ومعرفة الألفاظ المنطقية فلازمه لقراءة المنطق. فلم يزل ابن الوليد يحسن له الإسلام حتى استجاب وأسلم فسر بإسلامه أبو عبد الله الدامغاني قاضي القضاة يومئذٍ وقربه وأدناه ورفع محله بأن استخدمه في كتابة السجلات بين يديه وكان مع اشتغاله بذلك يطب أهل محلته وسائر معارفه بغير أجرةٍ ولا جعالةٍ بل احتساباً ومروءةً ويحمل إليهم الأدوية بغير عوض. ولما مرض مرض موته وقف كتبه لمشهد الإمام أبي حنيفة. ومن مشاهير تصانيفه كتاب المنهاج وكتاب تقويم الأبدان مجدول

” المستظهر بن المقتدي ”
لما توفي المقتدي بأمر الله أحضر ولده أبو العباس أحمد فبويع له ولقب المستظهر بالله وذلك في سنة سبعٍ وثمانين وأربعمائة. ” وفيها قتل السلطان بركيارق عمه تكش وغرقه وقتل ولده معه ” . وفي سنة ثمان وثمانين قتل تتش ابن الب أرسلان واستقام الأمر والسلطنة لبركيارق. وفيها في ذي الحجة توفي المستنصر بالله بن الظاهر لإعزاز دين الله العلوي صاحب مصر والشام وكانت خلافته ستين سنة وعمره سبعاً وستين سنة وولي بعده ابنه أبو القاسم أحمد ولقب المستعلي بالله. وفي سنة تسعٍ وثمانين حكم المنجمون بطوفان يكون في الناس يقارب طوفا نوح. فأحضر الخليفة ابن عيسون المنجم فسأله. فقال : إن في طوفان نوح اجتمعت الكواكب السبعة في برج الحوت والآن فقد اجتمع ستةٌ منها وليس فيها زحل فلو كان معها لكان مثل طوفان نوح ولكن أقول إن مدينة أو بقعة من الأرض يجتمع فيها عالمٌ كثيرٌ من بلادٍ كثيرةٍ فيغرقون. فخافوا على بغداد لكثرة من يجتمع فيها من البلاد فأحكمت المسنيات والمواضع التي يخشى منها الانفجار. فاتفق أن الحجاج نزلوا في وادي المناقب فأتاهم سيلٌ عظيم فأغرق أكثرهم ونجا من تعلق بالجبال وذهب المال والدواب والازواد. فخلع الخليفة على المنجم. وفي سنة تسعين وأربعمائة قتل ملك خراسان أرسلان أرغون بن الب أرسلان أخو السلطان ملكشاه قتله غلام له. فقيل له : لم فعلت هذا. فقال : لأريح الناس من ظلمه. ثم ملك بركيارق خراسان وسلمها إلى أخيه الملك سنجر. وفي سنة إحدى وتسعين جمع بردويل ملك الإفرنج جمعاً كثيراً وخرج إلى بلاد الشام وملك إنطاكية. وكان الإفرنج قبل هذا قد ملكوا مدينة طليطلة من بلاد الأندلس وغيرها ثم قصدوا جزيرة سقلية فملكوها وتطرقوا إلى أطراف إفريقية فملكوا منها شيئاً. فلما سمع قوام الدولة كربوقا بحال الإفرنج وملكهم إنطاكية جمع العساكر وسار إلى الشام ونزل على إنطاكية وحاصرها وفيها من الملوك بردويل وسنجال وكندفري والقومص صاحب الرها وبيموند صاحب إنطاكية. وقلت الأقوات عندهم فأرسلوا إلى كربوقا يطلبون منه الأمان ليخرجوا من البلد فلم يعطهم وقال : لا تخرجون إلا بالسيف. وكان مع الإفرنج راهب مطاع فيهم وكان داهية من الرجال فقال لهم : إن فطروس السليح كان له عكازة ذات زج مدفونة بكنيسة القسيان فإن وجدتموها فإنكم تظفرون وإلا فالهلاك متحقق. وأمرهم بالصوم والتوبة ففعلوا ذلك ثلاثة أيام. فلما كان اليوم الرابع أدخلهم الموضع جميعهم ومعهم عامتهم وحفروا عليها في جميع الأماكن فوجدوها كما ذكر. فقال لهم : أبشروا بالظفر. فقويت عزيمتهم وخرجوا اليوم الخامس من الباب متفرقين من خمسة وستة ونحو ذلك. فقال المسلمون لكربوقا : ينبغي أن تقف على الباب فتقتل كل من خرج. فقال : لا تفعلوا لكن أمهلوهم حتى يتكامل خروجهم فنقتلهم. فلما تكاملوا ولم يبق بإنطاكية أحد منهم ضربوا مصافاً عظيماً فولى المسلمون منهزمون وآخر من انهزم سقمان بن ارتق فقتل الإفرنج منهم ألوفاً وغنموا ما في العسكر من الأقوات والأموال والدواب والأسلحة فصلحت حالهم وعادت إليهم قوتهم وساروا إلى معرة النعمان فملكوها. وفي سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة لما رأى المصريون ضعف الأتراك صاروا إلى البيت المقدس وحصروه وبه الأمير سقمان وايلغازي ابنا ارتق التركماني وابن عمهما سونج ونصبوا عليه نيفاً وأربعين منجنيقاً وملكوه بالأمان وخرج عنه سقمان وأصحابه واستناب المصريون فيه رجلاً يعرف بافتخار الدولة. فقصده الإفرنج ونصبوا عليه برجين وملكوه من الجانب الشمالي وركب الناس السيف ولبث الإفرنج في البلد أسبوعاً يقتلون فيه المسلمين. وقتل بالمسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفاً وغنموا منه ما لا يقع عليه الإحصاء. وفي سنة ثلاث وتسعين جرى حربٌ بين السلطان بركيارق وبين أخيه السلطان محمد وانهزم بركيارق وتنقل في البلاد إلى أصفهان. ولم يدخلها وسار إلى خوزستان. وفي سنة أربع وتسعين كان المصاف الثاني بينهما وكان مع بركيارق خمسون ألفاً ومع أخيه محمد خمسة عشر ألفاً فالتقوا واقتتلوا فانهزم السلطان محمد وسار طالباً خراسان إلى أخيه الملك سنجر وهما لأمٍ واحدةٍ فأقام بجرجان وأتاه الملك سنجر في عساكره إلى مغان وخرب العسكر البلاد وعم الغلاء تلك الأصقاع حتى أكل الناس بعضهم بعضاً بعد فراغهم من أكل الميتة والكلاب. وفي سنة خمسٍ وتسعين توفي المستعلي بالله الخليفة العلوي المصري وكانت خلافته سبع سنين وولي بعده ابنه أبو علي المنصور وعمره خمس سنين ولقب بأحكام الله ولم يقدر يركب وحده على الفرس لصغر سنه وقام بتدبير دولته الأفضل بن أمير الجيوش أحسن قيام. وفي سنة سبعٍ وتسعين وقع الصلح بين السلطانين بركيارق وأخيه محمد ابني ملكشاه وتقررت القاعدة أن بركيارق لا يعترض أخاه محمداً في الطبل وأن لا يذكر معه على منابر البلاد التي صارت له وهي ديار بكر والجزيرة والموصل والشام. وفي سنة ثماني وتسعين توفي السلطان بركيارق بن ملكشاه وكان قد مرض بأصفهان بالسل والبواسير فلما آيس من نفسه خلع على ولده ملكشاه وعمره حينئذٍ أربع سنين وثمانية أشهر وأحضر جماعة الأمراء وأعلمهم أنه قد جعل ابنه ولي عهده في السلطنة وجعل الأمير ايز أتابكة فأجابوه كلهم بالسمع والطاعة وخطب لملكشاه بالجوامع ببغداد. وفي سنة تسعٍ وتسعين وأربعمائة سار السلطان محمد من أذربيجان إلى الموصل ليأخذها من جكرميش صاحبها وحصرها. فقاتل أهل البلد أشد قتال وكانت الرجالة تخرج ويكثرون القتل في العسكر ودام القتال من صفر إلى جمادى الأولى. فوصل الخبر إلى جكرميش بوفاة السلطان بركيارق فأرسل إلى محمد يبذل له الطاعة. ودخل إليه الوزير محمد وقال له : المصلحة أن تحضر الساعة عند السلطان فإنه لا يخالفك في جميع ما تلتمسه منه. وأخذ بيده وقام فسار معه جكرميش فلما رآه أهل الموصل قد توجه إلى السلطان جعلوا يبكون ويحثون التراب على رؤوسهم. فلما دخل على السلطان محمد أقبل عليه وأكرمه وعانقه ولم يمكنه من الجلوس وقال : ارجع إلى رعيتك فإن قلوبهم إليك وهم متطلعون إلى عودتك. فقبل الأرض وعاد وعمل من الغد سماطاً بظاهر الموصل عظيماً وحمل إلى السلطان من الهدايا والتحف ولوزيره أشياء جليلة المقدار. وفي سنة خمسمائة سار الجاولي سقاوو إلى الموصل محارباً في ألف فارس وخرج إليه جكرميش صاحبها في ألفي فارس. فلما اصطفوا للحرب حمل الجاولي من القلب على قلب جكرميش فانهزم من فيه وبقي جكرميش وحده لا يقدر على الهزيمة لفالجٍ كان به فهو لا يقدر يركب وإنما يحمل في محفةٍ فأسر وأحضر عند الجاولي فأمر بحفظه وحراسته. ولما وصل الخبر إلى الموصل اقعدوا في الأمر زنكي بن جكرميش. ثم إن الجاولي حصر الموصل وأمر أن يحمل جكرميش كل يومٍ على بغلٍ وينادى أصحابه بالموصل ليسلموا البلد ويخلصوا صاحبهم مما هو فيه ويأمرهم هو بذلك فلا يسمعون منه وكان يسجنه في جبٍ فأخرج يوماً ميتاً. فكتب أصحابه إلى الملك قلج أرسلان بن سليمان بن قتلميش السلجوقي صاحب مدينة قونية وأقسرة يستدعونه إليهم ليسلموا البلد إليه. فسار في عساكره. فلما سمع جاولي بوصوله رحل عن الموصل فتوجه قلج أرسلان إلى الموصل وملكها ونزل بالنغرقة وخرج إليه زنكي ولد جكرميش وأصحابه وخلع عليهم وجلس على التخت وأسقط خطبة السلطان محمد وخطب لنفسه وأحسن إلى العسكر ورفع الرسوم المحدثة في الظلم ثم سار عنها إلى جاولي وهو بالرحبة والتقيا على نهر الخابور فهزم أصحاب جاولي أصحاب قلج أرسلان وألقى قلج أرسلان نفسه في الخابور وحمى نفسه من أصحاب جاولي بالنشاب فانحدر به الفرس إلى ماءٍ عميقٍ فغرق. وظهر بعد أيام فدفن بالشمسانية. وسار جاولي إلى الموصل وملكها. وفي سنة اثنتين وخمسمائة استولى مودود وعسكر السلطان محمد على الموصل وأخذوها من أصحاب جاولي. وفي سنة ثلاث وخمسمائة سار تنكري الفرنجي صاحب إنطاكية إلى الثغور الشامية فملك طرسوس وأذنة ونزل على حصن الأكراد فسلمه أهله إليه. وملك الفرنج مدينة بيروت وكانت بيد نواب الخليفة العلوي. وفي سنة ستٍ في المحرم سار الأمير مودود صاحب الموصل إلى الرها فنزل عليها ورعى عسكره زروعها ورحل عنها إلى سروج وفعل بها كذلك ولم يحترز من الفرنج بل أهملهم فلم يشعر إلا وجوسلين صاحب تل باشر قد دهمهم وكبسهم وكانت دواب العسكر منتشرةً في المرعى فأخذ كثيراً منها وقتل كثيراً من العسكر وعاد إلى تل باشر. وفيها مات باسيل الأرمني صاحب دروب بلاد لاون وهو المسمى كوع باسيل أي اللص باسيل لأنه سرق عدة قلاعٍ من الثغور فتملكها الأرمن إلى الآن. وفي سنة سبعٍ وخمسمائة اجتمع المسلمون وفيهم الأمير مودود بن التون تكش صاحب الموصل ودخلوا بلاد الفرنج والتقوا عند طبرية واشتد القتال وصبر الفريقان. ثم إن الفرنج انهزموا فأذن الأمير مودود للعساكر في العود والاستراحة ثم الاجتماع في الربيع. ودخل دمشق ليقيم بها عند طغدكين صاحبها إلى الربيع فدخل الجامع ليصلي فيه فوثب عليه باطني كأنه يدعو له ويتصدق منه فضربه بسكين فجرحه أربع جراحات فمات من يومه. وقتل الباطني وأخذ رأسه فلم يعرفه أحد فأحرق. وفي سنة إحدى عشرة في ذي الحجة مرض السلطان محمد بن ملكشاه ابن الب أرسلان فلما آيس من نفسه أحضر ولده محموداً وقبله وبكى كل واحدٍ منهما وأمره أن يخرج ويجلس على تخت السلطنة وعمره إذ ذاك قد زاد على أربع عشرة سنة. فقال لوالده أنه يومٌ غير مبارك يعني من طريق النجوم. فقال : صدقت ولكن على أبيك وأما عليك فمبارك بالسلطنة. فخرج وجلس على التخت بالتاج والسوارين. وكان السلطان محمد عظيم الهيبة عادلاً حسن السيرة شجاعاً وفي سنة اثنتي عشرة وخمسمائة سادس عشر ربيع الآخر توفي الإمام المستظهر بالله وكان عمره إحدى وأربعين سنة وستة أشهر وخلافته أربعاً وعشرين سنة. ومضى في أيامه ثلاثة سلاطين خطب لهم بالحضرة وهم تاج الدولة تتش بن الب أرسلان والسلطان بركيارق والسلطان محمد ابنا ملكشاه.ن وهو المسمى كوع باسيل أي اللص باسيل لأنه سرق عدة قلاعٍ من الثغور فتملكها الأرمن إلى الآن. وفي سنة سبعٍ وخمسمائة اجتمع المسلمون وفيهم الأمير مودود بن التون تكش صاحب الموصل ودخلوا بلاد الفرنج والتقوا عند طبرية واشتد القتال وصبر الفريقان. ثم إن الفرنج انهزموا فأذن الأمير مودود للعساكر في العود والاستراحة ثم الاجتماع في الربيع. ودخل دمشق ليقيم بها عند طغدكين صاحبها إلى الربيع فدخل الجامع ليصلي فيه فوثب عليه باطني كأنه يدعو له ويتصدق منه فضربه بسكين فجرحه أربع جراحات فمات من يومه. وقتل الباطني وأخذ رأسه فلم يعرفه أحد فأحرق. وفي سنة إحدى عشرة في ذي الحجة مرض السلطان محمد بن ملكشاه ابن الب أرسلان فلما آيس من نفسه أحضر ولده محموداً وقبله وبكى كل واحدٍ منهما وأمره أن يخرج ويجلس على تخت السلطنة وعمره إذ ذاك قد زاد على أربع عشرة سنة. فقال لوالده أنه يومٌ غير مبارك يعني من طريق النجوم. فقال : صدقت ولكن على أبيك وأما عليك فمبارك بالسلطنة. فخرج وجلس على التخت بالتاج والسوارين. وكان السلطان محمد عظيم الهيبة عادلاً حسن السيرة شجاعاً وفي سنة اثنتي عشرة وخمسمائة سادس عشر ربيع الآخر توفي الإمام المستظهر بالله وكان عمره إحدى وأربعين سنة وستة أشهر وخلافته أربعاً وعشرين سنة. ومضى في أيامه ثلاثة سلاطين خطب لهم بالحضرة وهم تاج الدولة تتش بن الب أرسلان والسلطان بركيارق والسلطان محمد ابنا ملكشاه

***

قال أبو الصلت أمية المغربي : لما دخلت إلى مصر في حدود سنة عشر وخمسمائة أدركت بها طبيباً إنطاكياً يسمى جرجيس ويلقب بالفيلسوف على نحو ما قيل للغراب أبو البيضاء وللديغ سليم. وقد تفرغ للتولع بأبي الخير سلامة بن رحمون اليهودي الطبيب المصري والإزراء عليه وكان يزور فصولاً طبيةً وفلسفيةً يبرزها في معارض ألفاظ القوم وهي محال لا معنى لها فارغة لا فائدة فيها ثم ينفذها إلى من يسأله عن معانيها ويستوضحه أغراضها فيتكلم عليها ويشرحها بزعمه دون تيقظٍ ولا تحفظٍ باسترسالٍ واستعجالٍ وقلة اكتراثٍ وإهمالٍ فيوجد فيها عنه ما يضحك منه. ” قال ” وأنشدت لجرجيس هذا في أبي الخير سلامة بن رحمون وهو من أحسن ما سمعت في هجو طبيبٍ مشؤوم

إن أبا الخير على جهله … يخف في كفته الفاضلُ
عليله المسكين من شؤمه … في بحر هلكٍ ما له ساحلُ
ثلثةٌ تدخل في دفعةٍ … طلعته والنعش والغاسلُ

“ قال “ وكان أبو الخير هذا يهودياً مصرياً قد نصب نفسه لتدريس كتب المنطق جميعها وجميع كتب الفلسفة الطبيعية والإلهية وشرح بزعمه وفسر ولخص ولم يكن في تحصيله وتحقيقه هنالك بل كان يكثر كلامه فيضل. ويسرع جوابه فيزل. وكان مثله في عظيم ادعائه وقصوره عن أيسر ما هو متعاطيه كقول الشاعر

يشمر للج عن ساقه … ويغمره الموج في الساحلِ

” قال ” ورأيت بمصر أيضاً رزق الله المنجم المعروف بالنخاس وكان شيخ أكثر المنجمين بمصر وكبيرهم وكان شيخاً مطبوعاً متطابياً. ومن حكاياته الظريفة عن نفسه قال : سألتني امرأةٌ مصريةٌ أن أنظر لها في مشكلةٍ تخصها. فأخذت ارتفاع الشمس للوقت وحققت درجة الطالع والبيوت الاثني عشر ومراكز الكواكب ورسمت ذلك كله بين يدي في تخت الحساب وجعلت أتكلم على بيتٍ بيتٍ منها على العادة وهي ساكتة فوجمت لذلك وأدركتني فترة وكانت قد ألقت إلي درهماً. ” قال ” فعاودت الكلام وقلت : أرى عليك قطعاً في بيت المال فاتفظي واحترسي. قالت : الآن أصبت وصدقت قد كان والله ما ذكرت. قلت : وهل ضاع لك شيءٌ. قالت : نعم الدرهم الذي ألقيت إليك. وتركتني وانصرفت. ولما ذكر أبو الصلت منجمي مصر وعابهم قال : لا تتعلق أمثلتهم من علم النجوم بأكثر من زايجةٍ يرسمها ومراكز يقومها وأما التبحر ومعرفة الأسباب والعلل والمبادي الأول فليس منهم من يرقى إلى هذه الدرجة ويسمو إلى هذه المنزلة ويحلق في هذا الجو ويستضيء بهذا الضوء ما خلا القاضي أبا الحسن علي ابن النصير المعروف بالأديب فإنه كان من الأفاضل الأعيان المعدودين من حسنات الزمان وله في سائر أجزاء الحكمة اليد الطولى والمرتبة الأولى

“ المسترشد بن المستظهر “
لما توفي المستظهر بالله بويع ولده المسترشد بالله أبو منصور وذلك في سنة اثنتي عشرة وخمسمائة فكان ولي عهدٍ قد خطب له ثلاثاً وعشرين سنة. وفيها توفي بغدوين ملك القدس وكان قد سار إلى ديار مصر في جمعٍ من الفرنج قاصداً ملكها وبلغ مقابل تنيس وسبح في النيل فانتقض جرحٌ كان به فلما أحس بالموت عاد إلى القدس فمات به ووصى ببلاده للقمص صاحب الرها وهو الذي كان أسره جكرميش وأطلقه سقاوو جاولي. وفي سنة ثلاث عشرة وخمسمائة كانت حربٌ شديدةٌ بين السلطان سنجر وابن أخيه السلطان محمود. وفي سنة أربع عشرة خرج الكرج والخزر إلى بلاد الإسلام ومعهم قفجاق وغيرهم من الأمم فاجتمع الأمير ايلغازي ودبيس بن صدقة والملك طغرل وكان له أران ونخجوان وساروا إلى الكرج حتى قاربوا تفليس وكان المسلمون في عسكرٍ كثيرٍ يبلغون ثلاثين ألفاً فالتقوا واصطف الطائفتان للقتال فخرج من القفجاق مائتا رجل فظن المسلمون أنهم مستأمنون فلم يحترزوا منهم. فدخلوا بينهم ورموا بالنشاب فاضطرب جيش المسلمين وظن من وراءهم أنها هزيمةٌ فانهزموا ولشدة الزحام صدم بعضهم بعضاً فقتل منهم عالم عظيم وتبعهم الكرج عشرة فراسخ يقتلون ويأسرون فقتل أكثرهم وأسر أربعة آلاف رجل ونجا الملك طغرل وايلغازي ودبيس. وعاد الكرج وحاصروا مدينة تفليس واشتد قتالهم لمن بها وعظم الأمر وتفاقم الخطب على أهلها ودام الحصار إلى سنة خمس عشرة فملكوها عنوةً. وفي سنة خمس عشرة عصى سليمان بن ايلغازي بن ارتق على أبيه بحلب وقد جاوز عمره عشرين سنة. فسمع والده الخبر فسار إليه مجداً لوقته فلم يشعر به سليمان حتى هجم عليه فخرج إليه معتذراً فأمسك عنه وقبض على من كان أشار عليه بذلك منهم أميرٌ كان التقطه ارتق ورباه اسمه ناصر فقلع عينيه وقطع لسانه. ومنهم إنسانٌ حموي كان قدمه ايلغازي على أهل حلب وجعل إليه الرئاسة فجازاه عن ذلك فقطع يديه ورجليه وسمل عينيه فمات. وأحضر ولده وهو سكران وأراد قتله فمنعه رقة الوالد فاستبقاه فهرب إلى دمشق. واستناب ايلغازي بحلب سليمات بن أخيه عبد الجبار بن ارتق ولقبه بدر الدولة وعاد إلى ماردين. وفيها أقطع السلطان مدينة ميافارقين للأمير ايلغازي ابن ارتق ومدينة الموصل والجزيرة وسنجار للأمير اقسنقر الرسقي. وفي سنة ست عشرة في شهر رمضان توفي الأمير ايلغازي بن ارتق بميافارقين وملك ابنه حسام الدين تمرتاش قلعة ماردين وملك ابنه سليمان ميافارقين. وكان بحلب ابن أخيه بدر الدولة سليمان بن عبد الجبار بن ارتق فبقي بها إلى أن أخذها منه ابن عمه. وفي سنة سبع عشرة لما رأى بلك بن بهرام بن ارتق ضعف بدر الدولة سليمان ابن عمه عن حوط بلاده من الفرنج سار إليه إلى حلب وضيق على من بها فتسلمها بالأمان. وفي سنة ثماني عشرة سار بلك بن بهرام إلى منبج وملكها وحصر القلعة فبينما هو يقاتل من بها أتاه سهمٌ فقتله واضطرب عسكره وتفرقوا وملك اقسنقر البرسقي حلب وقلعتها وملك الفرنج مدينة صور. وفي سنة عشرين وخمسمائة في ذي القعدة قتل قسيم الدولة اقسنقر البرسقي صاحب الموصل بمدينة الموصل قتله الباطنية يوم الجمعة بالجامع وملك ابنه عز الدين مسعود الموصل ولم يختلف عليه أحد. قال المؤرخ : ومن العجب أن صاحب إنطاكية أرسل إلى عز الدين مسعود يخبره بقتل والده قبل أن يصل إليه الخبر وكان قد سمعه الفرنج قبل لشدة عنايتهم بمعرفة الأحوال الإسلامية. وفي سنة إحدى وعشرين تولى أتابك عماد الدين زنكي بن اقسنقر شحنكية بغداد أسندها إليه السلطان محمود. وفيها توفي عز الدين مسعود بن اقسنقر وتولى أخوه عماد الدين زنكي الموصل وأعمالها. وفي سنة اثنتين وعشرين ملك عماد الدين زنكي بن اقسنقر مدينة حلب وقلعتها وبعد سنة ملك مدينة حماة. وفي سنة أربع وعشرين وخمسمائة ثاني ذي القعدة قتل الآمر بأحكام الله أبو علي بن المستعلي العلوي صاحب مصر خرج إلى منتزهٍ له فلما عاد وثب عليه الباطنية فقتلوه ولم يكن له ولد فولي بعده ابن عمه أبو الميمون عبد المجيد بن أبي القاسم ابن المستنصر العلوي صاحب مصر ولقب الحافظ لدين الله ولم يبايع له بالخلافة وإنما بويع له لينظر في الأمر نيابةً حتى يكشف عن حمل إن كان للآمر فتكون له فة فيه ويكون هو نائباً عنه. وفيها ظهر ببغداد عقارب طيارة ذوات شوكتين فنال الناس منها خوف شديد وأذى عظيم. وفي سنة خمس وعشرين في شوال توفي السلطان محمودابن السلطان محمد بهمذان وكان عمره نحو سبع وعشرين سنة وولايته ثلاث عشرة سنة وكان حليماً كريماً عاقلاً يسمع ما يكره ولا يعاقب عليه مع القدرة قليل الطمع في أموال الرعايا عفيفاً عنها كافاً لأصحابه عن التطرق إلى شيءٍ منها. وملك ابنه داود بعده. وفي سنة ستٍ وعشرين كاتب السلطان سنجر عماد الدين زنكي ودبيس بن صدقة وأمرهما بقصد العراق فسارا ونزلا بالمنارية من دجيل وعبر الخليفة المسترشد إلى الجانب الغربي فنزل بالعباسية والتقى العسكران بحضرا البرامكة فابتدأ زنكي فحمل على ميمنة الخليفة وبها جمال الدولة إقبال فانهزموا منه. وحمل نصر الخادم من ميسرة الخليفة على ميمنة عماد الدين ودبيس وحمل الخليفة بنفسه واشتد القتال فانهزم دبيس وعماد الدين وقتل من عسكرهما جماعة وأسر جماعة. وفي سنة سبعٍ وعشرين أرسل المسترشد الشيخ بهاء الدين أبا الفتوح الاسفرايني الواعظ إلى عماد الدين زنكي برسالةٍ فيها خشونة وزادها أبو الفتوح زيادةً في الجبه ثقةً بقوة الخليفة وناموس الخلافة. فقبض عليه زنكي وأهانه ولقيه بما يكره. فسمع الخليفة فسار عن بغداد في ثلاثين ألف مقاتل فلما قارب الموصل فارقها أتابك زنكي في بعض عسكره وترك الباقي بها مع نائبه نصير الدين ونازلها الخليفة في رمضان وقاتلها وضيق عليها. فتواطأ جماعة من الجصاصين بالموصل على تسليم البلد فسعي بهم فصلبوا. وبقي الحصار على الموصل نحو ثلاثة أشهر ولم يظفر منها بشيء ولا بلغه عمن بها وهن ولا قلة ميرة وقوت فرحل عنها عائداً إلى بغداد. وفي سنة ثماني وعشرين تقرر الصلح بين الخليفة المسترشد وأتابك زنكي. وفي سنة تسع وعشرين وخمسمائة سار الخليفة المسترشد إلى حرب السلطان مسعود ومعه جماعة من أمراء الأكابر فواقعهم السلطان مسعود عاشر رمضان فانحازت ميسرة الخليفة مخامرةً عليه إلى السلطان واقتتلت ميمنته وميسرة السلطان قتالاً ضعيفاً ودار به عسكر السلطان وهو ثابت لم يتغير من مكانه وانهزم عسكره وأخذ أسيراً فأنزله السلطان مسعود في خيمة ووكل به من يحفظه وقام بما يجب من الخدمة وترددت الرسل بينهما بالصلح وتقرير القواعد على مالٍ يؤديه الخليفة وأن لا يعود يجمع العساكر ولا يخرج من داره وأجاب السلطان إلى ذلك وأركب الخليفة وحمل الغاشية بين يديه ولم يبق إلا أن يعود إلى بغداد فوصل الخبر بقدوم رسولٍ من السلطان سنجر وخرج الناس والسلطان مسعود إلى لقائه وفارق الخليفة بعض من كان موكلاً به وكانت خيمته منفردةً عن العسكر فقصده أربعةٌ وعشرون رجلاً من الباطنية ودخلوا عليه فقتلوه وجرحوه ما يزيد على عشرين جراحةٍ ومثلوا به وجدعوا أنفه وأذنيه وتركوه عرياناً وكان قتله يوم الخميس سابع عشر ذي القعدة على باب مراغة وبقي حتى دفنه أهل مراغة وكان عمره لما قتل ثلاثاً وأربعين سنة وخلافته سبع عشرة سنة وسبعة أشهر.ة فيه ويكون هو نائباً عنه. وفيها ظهر ببغداد عقارب طيارة ذوات شوكتين فنال الناس منها خوف شديد وأذى عظيم. وفي سنة خمس وعشرين في شوال توفي السلطان محمودابن السلطان محمد بهمذان وكان عمره نحو سبع وعشرين سنة وولايته ثلاث عشرة سنة وكان حليماً كريماً عاقلاً يسمع ما يكره ولا يعاقب عليه مع القدرة قليل الطمع في أموال الرعايا عفيفاً عنها كافاً لأصحابه عن التطرق إلى شيءٍ منها. وملك ابنه داود بعده. وفي سنة ستٍ وعشرين كاتب السلطان سنجر عماد الدين زنكي ودبيس بن صدقة وأمرهما بقصد العراق فسارا ونزلا بالمنارية من دجيل وعبر الخليفة المسترشد إلى الجانب الغربي فنزل بالعباسية والتقى العسكران بحضرا البرامكة فابتدأ زنكي فحمل على ميمنة الخليفة وبها جمال الدولة إقبال فانهزموا منه. وحمل نصر الخادم من ميسرة الخليفة على ميمنة عماد الدين ودبيس وحمل الخليفة بنفسه واشتد القتال فانهزم دبيس وعماد الدين وقتل من عسكرهما جماعة وأسر جماعة. وفي سنة سبعٍ وعشرين أرسل المسترشد الشيخ بهاء الدين أبا الفتوح الاسفرايني الواعظ إلى عماد الدين زنكي برسالةٍ فيها خشونة وزادها أبو الفتوح زيادةً في الجبه ثقةً بقوة الخليفة وناموس الخلافة. فقبض عليه زنكي وأهانه ولقيه بما يكره. فسمع الخليفة فسار عن بغداد في ثلاثين ألف مقاتل فلما قارب الموصل فارقها أتابك زنكي في بعض عسكره وترك الباقي بها مع نائبه نصير الدين ونازلها الخليفة في رمضان وقاتلها وضيق عليها. فتواطأ جماعة من الجصاصين بالموصل على تسليم البلد فسعي بهم فصلبوا. وبقي الحصار على الموصل نحو ثلاثة أشهر ولم يظفر منها بشيء ولا بلغه عمن بها وهن ولا قلة ميرة وقوت فرحل عنها عائداً إلى بغداد. وفي سنة ثماني وعشرين تقرر الصلح بين الخليفة المسترشد وأتابك زنكي. وفي سنة تسع وعشرين وخمسمائة سار الخليفة المسترشد إلى حرب السلطان مسعود ومعه جماعة من أمراء الأكابر فواقعهم السلطان مسعود عاشر رمضان فانحازت ميسرة الخليفة مخامرةً عليه إلى السلطان واقتتلت ميمنته وميسرة السلطان قتالاً ضعيفاً ودار به عسكر السلطان وهو ثابت لم يتغير من مكانه وانهزم عسكره وأخذ أسيراً فأنزله السلطان مسعود في خيمة ووكل به من يحفظه وقام بما يجب من الخدمة وترددت الرسل بينهما بالصلح وتقرير القواعد على مالٍ يؤديه الخليفة وأن لا يعود يجمع العساكر ولا يخرج من داره وأجاب السلطان إلى ذلك وأركب الخليفة وحمل الغاشية بين يديه ولم يبق إلا أن يعود إلى بغداد فوصل الخبر بقدوم رسولٍ من السلطان سنجر وخرج الناس والسلطان مسعود إلى لقائه وفارق الخليفة بعض من كان موكلاً به وكانت خيمته منفردةً عن العسكر فقصده أربعةٌ وعشرون رجلاً من الباطنية ودخلوا عليه فقتلوه وجرحوه ما يزيد على عشرين جراحةٍ ومثلوا به وجدعوا أنفه وأذنيه وتركوه عرياناً وكان قتله يوم الخميس سابع عشر ذي القعدة على باب مراغة وبقي حتى دفنه أهل مراغة وكان عمره لما قتل ثلاثاً وأربعين سنة وخلافته سبع عشرة سنة وسبعة أشهر

“ الراشد بن المسترشد ”
لما قتل المسترشد بويع ولده أبو جعفر المنصور ولقب الراشد بالله. وكان المسترشد بايع له بولاية العهد في حياته وجددت له البيعة بعد قتله يوم الاثنين سلخ ذي القعدة سنة تسع وعشرين وخمسمائة. وفيها قتل دبيس بن صدقة صاحب الحلة على باب سرادقه بظاهر خونج أمر السلطان غلاماً أرمنياً بقتله فوقف على رأسه وهو ينكت الأرض بإصبعه فضرب رقبته وهو لا يدري. ومثل هذه الحادثة تقع كثيراً وهو قرب موت المتعادين فإن دبيساً كان يعادي المسترشد ويكره خلافته ولم يكن يعلم أن السلاطين إنما كانوا يبقون عليه ليجعلوه عدةً لمقاومة المسترشد فلما زال السبب زال المسبب. وفي سنة ثلاثين وخمسمائة اجتمع الملوك وأصحاب الأطراف ببغداد وخرجوا عن طاعة السلطان مسعود وسار الملك داود بن السلطان محمود في عسكر أذربيجان إلى بغداد ووصل أتابك عماد الدين زنكي بعده من الموصل وخطب للملك داود ببغداد. فلما بلغ السلطان الخبر جمع العساكر وسار إلى بغداد وحصرها نيفاً وخمسين يوماً فلم يظفر بهم فعزم على العود إلى همذان فوصله طرنطاي صاحب واسط ومعه سفن كثيرة فعاد إليها فاختلفت كلمة الأمراء المجتمعين ببغداد فعاد الملك داود إلى بلاده وتفرق الأمراء وكان عماد الدين زنكي بالجانب الغربي فعبر إليه الخليفة الراشد وسار معه إلى الموصل في نفرٍ يسيرٍ من أصحابه ودخل السلطان مسعود إلى بغداد واستقر بها وجمع القضاة والشهود والفقهاء وعرض عليهم اليمين التي حلف بها الراشد له وفيها بخط يده : إنني متى جندت أو خرجت أو لقيت أحداً من أصحاب السلطان مسعود بالسيف فقد خلعت نفسي من الأمر. فأفتوا وخلع وقطعت خطبته من بغداد وسائر البلاد وكانت خلافته أحد عشر شهراً وثمانية عشر يوماً

و في سنة ثلاثين وخمسمائة كان أبو علي المهندس المصري موجوداً بمصر قيماً بعلم الهندسة وكان فاضلاً فيه وفي الأدب وله شعرٌ يلوح عليه الهندسة فمن شعره

تقسم قلبي في محبة معشرٍ … بكل فتى منهم هواي منوطُ
كأن فؤادي مركزٌ وهمُ لهُ … محيطٌ وأهواي لديه خطوطُ

له أيضاً
إقليذس العلم الذي هو يحتوي … ما في السماء معاً وفي الآفاقِ
هو سلمٌ وكأنما أشكاله … درجٌ إلى العلياء للطراقِ
تزكو فوائده على إنفاقه … يا حبذا زاكٍ على الإنفاقِ
ترقى به النفس الشريفة مرتقىً … أكرم بذاك المرتقى والراقي

” المقتفي بن المستظهر ”
لما قطعت خطبة الراشد بالله تقدم السلطان مسعود بعمل محضر يذكر فيه ما ارتكبه الراشد من أخذ الأموال وأشياء تقدح في الإمامة ثم كتبوا فتوى : ما تقول العلماء في من هذه صفته هل يصلح للإمامة أم لا. فأفتوا أن من هذه صفته لا يصلح أن يكون إماماً. فاستشار السلطان جماعةً من أعيان بغداد فيمن يصلح أن يلي الخلافة فذكر الوزير محمد بن المستظهر ودينه وعقله ولين جانبه وعفته فأحضر المذكور وأجلس في الميمنة ودخل السلطان والوزير وتحالفا وقرر الوزير القواعد بينهما وخرج السلطان من عنده وحضر الأمراء والقضاة والفقهاء وبايعوه ثاني عشر ذي الحجة سنة ثلاثين وخمسمائة ولقب المقتفي لأمر الله

في سنة إحدى وثلاثين فارق الراشد المخلوع أتابك زنكي من الموصل وسار إلى همذان وبها الملك داود. وفيها رحل إلى أصفهان. فلما كان آخر رمضان وثب عليه نفرٌ من الخراسانية الذين كانوا في خدمته فقتلوه وهو يريد القيلولة وكان في أعقاب مرضٍ قد برأ منه ودفن بظاهر أصفهان بشهرستان وكان عمره أربعين سنة. وفي سنة اثنتين وثلاثين وصل أتابك زنكي إلى حماة وأرسل إلى شهاب الدين صاحب دمشق يخطب إليه أمه ليتزوجها واسمها زمرد خاتون ابنة جاولي وهي التي بنت المدرسة بظاهر دمشق على نهر بردى. فتزوجها وتسلم حمص مع قلعتها وإنما حمله على التزوج بها ما رآه من تحكمها في دمشق فظن أنه يملك البلد بالاتصال إليها فلما تزوجها خاب أمله ولم يحصل على شيء فأعرض عنها. وفيها ملك حسام الدين تمرتاش بن ايلغازي صاحب ماردين قلعة الهتاخ أخذها من بعض بني مروان وهو آخر من بقي منهم له ولاية. وفي سنة ثلاث وثلاثين ملك أتابك زنكي بن اقسنقر بعلبك. وفي سنة أربع ملك زنكي شهرزور وأعمالها. وفي سنة سبعٍ وثلاثين وخمسمائة توفي محمد بن دانشمند صاحب ملطية والثغر واستولى على بلاده الملك مسعود بن قلج أرسلان صاحب قونية وهو من السلجوقية

و في سنة تسعٍ وثلاثين فتح أتابك عماد الدين زنكي مدينة الرها من الفرنج وحاصر قلعة البيرة وهي للفرنج بعد ملك الره وهي من أمنع الحصون وضيق عليها وقارب أن يفتحها فجاءه خبر قتل نصير الدين نائبه بالموصل فسار عنها. فخاف من بالبيرة من الفرنج أن يعود إليها فأرسلوا إلى نجم الدين صاحب ماردين وسلموها إليه فملكها المسلمون

و في سنة أربعين وخمسمائة لخمسٍ مضين من ربيع الآخر قتل أتابك عماد الدين زنكي بن اقسنقر صاحب الموصل والشام وهو يحاصر قلعة جعبر قتله جماعة من مماليكه ليلاً غيلةً وهربوا إلى قلعة جعبر. فصاح من بها من أهلها إلى العسكر يعلمونهم بقتله فأظهروا الفرح. فدخل أصحابه إليه فأدركوه وبه رمق وفاضت نفسه لوقته وكان قد زاد عمره على ستين سنة قد وخطه الشيب وكان شديد الهيبة على عسكره ورعيته عظيم السياسة وكانت الموصل قبل أن يملكها أكثرها خراب بحيث يقف الإنسان قريب محلة الطبالين ويرى الجامع العتيق والعرصة ودار السلطان ليس بين ذلك عمارة. وكان الإنسان لا يقدر على المشي في الجامع العتيق إلا ومعه من يحميه وهو الآن في وسط العمارة. وكانت الموصل من أقل بلاد الله فاكهةً فصارت في أيامه وما بعدها من أكثر البلاد فواكه ورياحين. ولما قتل أتابك زنكي أخذ نور الدين محمود ولده خاتمه من يده وكان حاضراً معه وسار إلى حلب وملكها. وكان سيف الدين غازي أخوه بمدينة شهرزور وهي إقطاعه فأرسل إليه زين الدين علي كوجك نائب أبيه عماد الدين زنكي بالموصل يستدعيه إلى الموصل فحضر واستقر ملك سيف الدين على البلاد وبقي أخوه نور الدين بحلب وهي له

و في سنة أربعٍ وأربعين وخمسمائة توفي سيف الدين غازي بن أتابك زنكي صاحب الموصل بها من مرضٍ حاد. فلما اشتد مرضه أرسل إلى بغداد واستدعى أوحد الزمان أبا البركات فحضر عنده ورأى شدة مرضه فعالجه فلم ينجع الدواء وتوفي آخر جمادى الآخرة وكانت ولايته ثلاث سنين. وولي أمر الموصل والجزيرة بعده أخوه قطب الدين مودود. وكان أخوه الأكبر نور الدين محمود بالشام وله حلب وحماة فسار إلى سنجار وملكها ولم يحاققه أخوه قطب الدين ثم اصطلحا وأعاد نور الدين سنجار إلى قطب الدين وتسلم هو مدينة حمص والرحبة فبقي الشام له وديار الجزيرة لأخيه

و فيها غزا نور الدين محمود بن زنكي بلد الإفرنج من ناحية إنطاكية فاجتمعت الفرنج مع البرنس فلقيهم نور الدين واقتتلوا قتالاً عظيماً فانهزم الفرنج وقتل البرنس. وملك بعده ابنه بيمند وهو طفل فتزوجت أمه ببرنس آخر ليدبر البلد إلى أن يكبر ابنها. وفيها توفي الحافظ لدين الله عبد المجيد وولي الخلافة بمصر ابنه الظافر بأمر الله أبو المنصور اسمعيل. وفي سنة ستٍ وأربعين جمع نور الدين محمود عسكره وسار إلى بلاد جوسلين الفرنجي وهي شمالي حلب. وكان جوسلين فارس الفرنج غير مدافع قد جمع الشجاعة والرأي فسار في عسكره نحو نور الدين فالتقوا واقتتلوا وانهزم المسلمون وقتل منهم وأسر جمعٌ كثير وكان في جملتهم سلاح دار نور الدين فأخذه جوسلين ومعه سلاح نور الدين فسيره إلى الملك مسعود بن قلج أرسلان صاحب قونية واقصرا وقال له : هذا سلاح دار زوج ابنتك وسيأتيك بعده ما هو أعظم منه. فلما علم نور الدين الحال عظم ذلك عليه وأعمل الحيلة على جوسلين وهجر الراحة ليأخذ ثأره وأحضر جماعة من الأمراء التركمان وبذل لهم الرغائب إن هم ظفروا بجوسلين وسلموه إليه لأنه علم عجزه عنه في القتال. فجعل التركمان عليه العيون. فخرج متصيداً فظفر به طائفةٌ منهم وحملوه إلى نور الدين أسيراً. فسار نور الدين إلى قلاع جوسلين فملكها وهي عين تاب وعزاز وقورس والروندان وبرج الرصاص ودلوك ومرعش ونهر الجوز وغير ذلك من أعماله
و في سنة سبعٍ وأربعين توفي السلطان مسعود بن محمد بن ملكشاه بهمذان وكان عهده إلى ملكشاه ابن أخيه السلطان محمود فخطب له الأمير خاصبك بالسلطنة ورتب الأمور وقررها بين يديه. ثم قبض عليه وأرسل إلى أخيه الملك محمد وهو بخوزستان يستدعيه وكان قصده أن يحضر عنده فيقبضه ويخطب لنفسه بالسلطنة. فسار إليه محمد فاجلسه على التخت وخطب له بالسلطنة. ثم شعر محمد بخبث خاصبك فثاني يوم وصوله لما دخل إليه قتله ومعه زنكي الجاندار وألقى رأسيهما وبقيا حتى أكلتهما الكلاب واستقر محمد في السلطنة. وفيها توفي حسام الدين تمرتاش صاحب ماردين وميافارقين وكانت ولايته نيفاً وثلاثين سنة وولي بعده ابنه نجم الدين البي
وفي سنة ثمان وأربعين وخمسمائة ملك الفرنج بالشام مدينة عسقلان وكانت من جملة مملكة العلويين المصريين. وفي سنة تسعٍ وأربعين في المحرم قتل الظافر بن الحافظ العلوي صاحب مصر وولي ابنه الفائز بنصر الله ثاني يوم قتل أبوه وله من العمر خمس سنين فحمله الوزير عباس على كتفه وأجلسه على التخت سرير الملك. وفيها في صفر ملك نور الدين محمود بن زنكي بن اقسنقر مدينة دمشق وأخذها من صاحبها مجير الدين ابق بن محمد بوري بن طغدكين أتابك. وفي سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة في رجب كان بالشام زلازل كثيرة قوية خربت كثيراً من البلاد فخرب منها حمص وحماة وشيزر وكفرطاب والمعرة وحصن الأكراد وعرقة واللاذقية وطرابلس وإنطاكية. وأما كثرة القتلى فيكفي فيها أن معلماً كان بمدينة وذكر أنه فارق المكتب لمهمٍ عرض له فجاءت الزلزلة فخربت البلد وسقط المكتب على
جميعهم. ” قال المعلم ” فلم يأت أحدٌ يسأل عن صبيٍ كان له
وفيها في ريع الأول توفي السلطان سنجر بن ملكشاه بن الب أرسلان أصابه قولنج ثم بعده إسهال. وفي سنة أربعٍ وخمسين ثامن ربيع الآخر كثرت الزيادة في دجلة وخرج القورج فوق بغداد فامتلأت الصحارى وخندق البلد ووقع بعض السور فغرق بعض القطيعة وباب الأزج والمأمونية ودب الماء تحت الأرض إلى أماكن فوقعت وأخذ الناس يعبرون إلى الجانب الغربي فبلغت المعبرة عدة دنانير ولم يكن يقدر عليها. ثم نقص الماء فكثر الخراب وبقيت المحال لا تعرف وإنما هي تلول فأخذ الناس حدود دورهم بالتخمين. وفيها في ذي الحجة توفي السلطان محمد بن محمود بن محمد ابن ملكشاه وملك عمه سليمان شاه بن محمد. وفي سنة خمسٍ وخمسين وخمسمائة ثاني ربيع الأول توفي الخليفة المقتفي لأمر الله وكانت خلافته أربعاً وعشرين سنة وعمره ستاً وستين سنة.وهو أول من استبد بالعراق منفرداً عن سلطان وحكم على عسكره وأصحابه من حين تحكم المماليك على الخلفاء ومن عهد المستنصر إلى الآن

***

وكان في وسط المائة السادسة من الأطباء المشار إليهم في اآفاق ثلاثة أفاضل معاً من ثلاث ملل كل منهم هبة الله اسماً ومعنىً من النصارى واليهود والمسلمين هبة الله ابن صاعد بن التلميذ وهبة الله بن ملكا أبو البركات أوحد الزمان وهبة الله بن الحسين الأصفهاني. أما التلميذ الطبيب النصراني البغدادي ففاضل زمانه وعالم أوانه خدم الخلفاء من بني العباس وتقدم في خدمتهم وارتفعت مكانته لديهم وكان موفقاً في المباشرة والمعالجة عالماً بقوانين هذه الصناعة عمر طويلاً وعاش نبيلاً جليلاً وكان شيخاً بهي المنظر حسن الرواء عذب المجتنى والمجتبى لطيف الروح ظريف الشخص بعيد الهم عالي الهمة ذكي الخاطر مصيب الفكر حازم الرأي. وله في نظم الشعر كلماتٌ راقية رائفة شافية شائقة تعرب عن لطافة طبعه. ومن شعره

كانت بلهنية الشبيبة سكرةً … فصحوت واستأنفت سيرة مجملِ
وقعدت أرتقب الفناء كراكبٍ … عرف المحل فبات دون المنزلِ

وكان أبو الحسن بن التلميذ يحضر عند المقتفي كل أسبوعٍ مرةً فيجلسه لكبر سنه. وتوفي في صفر سنة ستين وخمسمائة وقد قارب المائة وذهنه بحاله. وسأله ابنه قبل أن يموت بساعة : ما تشتهي. قال : أن أشتهي. وأما هبة الله بن ملكا أبو البركات اليهودي في أكثر عمره المسلم في آخر أمره فكان طبيباً فاضلاً عالماً بعلوم الأوائل وكان حسن العبارة لطيف الإشارة صنف كتاباً سماه المعتبر أخلاه من النوع الرياضي وأتى فيه بالمنطق الطبيعي والإلهي فجاءت عبارته فصيحة ومقاصده في ذلك الطريق صحيحة. ولما مرض أحد السلاطين السلجوقية استدعاه من بغداد فتوجه نحوه ولاطفه إلى أن برأ وأعطاه العطايا الجمة من الأموال والمراكب والملابس والتحف وعاد إلى العراق على غاية ما يكون من التجمل والغنى. وسمع أن ابن أفلح قد هجاه بقوله

لنا طبيبٌ يهوديٌ حماقته … إذا تكلم تبدو فيه من فيهِ
يتيه والكلب أعلى منه منزلةً … كأنه بعد لم يخرج من التيهِ

ولما سمع ذلك علم أنه لا يبجل بالنعمة التي أنعمت عليه إلا بالإسلام فقوي عزمه على ذلك. وتحقق أن له بناتٍ كباراً وأنهن لا يدخلن معه في الإسلام وأنه متى مات لا يرثنه فتضرع إلى الخليفة في الإنعام عليهن من مالٍ يخلفه وإن كن على دينهن فوقع له بذلك. ولما تحققه أظهر إسلامه وجلس للتعليم والمعالجة ولم يزل سعيداً إلى أن قلب له الدهر ظهر المجن. ووضع من شأنه بعد أن أسن. فأدركته إعلالٌ قصر عن معاناتها طبه. واستولت عليه الآلام مما لم يطق حملها جسمه ولا قلبه. وذلك أنه عمي وطرش وجذم. فنعوذ بالله من استحالة الأحوال وضيق المحال وسوء المآل. ولما أحس بالموت أوصى إلى من يتولاه أن يكتب على قبره ما مثاله : هذا قبر أوحد الزمان أبي البركات ذي العبر صاحب المعتبر. وفي كبر أبي البركات أوحد الزمان فتواضع أمين الدولة بن التلميذ يقول البديع هبة الله الاصطرلابي

أبو الحسن الطبيب ومقتفيه … أبو البركات في طرفي نقيضِ
فذاك من التواضع في الثريا … وهذا بالتكبر في الحضيضِ

وأما هبة الله بن الحسين بن علي الحكيم الطبيب الأصفهاني فكان من محاسن الدهر وأفاضل العصر وفيه قيل أن عند طبه لا يشترى بقراط بقيراط ولا يستقيم سقراط على الصراط ولحق حق ابن بطلان بالبطلان. وتوفي سنة نيفٍ وثلاثين وخمسمائة بسكتةٍ أصابته ودفن في سرداب داره وهو مسكت فلما فتح بابه بعد أشهرٍ لينقل وجد جالساً عند الدرجة وهو ميت. وله شعرٌ حلوٌ منه ما قاله يصف حماماً في دار صديقٍ له

و دخلت جنتهُ وزرت جحيمهُ … وشكرت رضواناً ورأفة مالكِ
والبشر في وجه الغلام نتيجةٌ … لقد مات ضياء وجه المالكِ

وفي الأيام المقتفية دخل أبو الحكم المغربي الأندلسي الحكيم المرسي العراق وهو مجهولٌ لا يُعرف ورأى في بعض تطوافه بأزقة بغداد رجلاً جالساً على باب دار يشعر بالرئاسة لسامنها وبين يديه شابٌ يقرأ عليه شيئاً من كتاب أوقليذس فقرب منهما أبو الحكم ليسمع فإذا المعلم يهذي ما لا يعلم فرد عليه خطأه وبين غلطه. وعلم الشاب الحقيقة في الرد فاستوقف أبا الحكم إلى أن يعود ودخل الدار وخرج يستدعي أبا الحكم دون المعلم فدخل إلى دار سرية فلقي والد الشاب وهو أحد أمراء الدولة فأحسن ملتقاه ثم سأله ملازمة ولده فأجاب. فاشتهر ذكر أبي الحكم فتطلبه الطلبة وارتفع قدره. وكان كثير الهزل والمزاح. شديد المجون والارتياح. ثم كره العراق وفارق على نية قصد المغرب. فلما حل بظاهر دمشق سير غلاماً له ليبتاع منها ما يأكلانه في يومهما وأصحبه نزراً يكفي رجلين. فعاد الغلام ومعه شواءٌ وفاكهةٌ وحلواء وفقاع وثلج. فنظر أبو الحكم إلى ما جاء به وقال عند استكثاره : أوجدت أحداً من معارفنا. فقال : لا وإنما ابتعت هذا بما كان معي وبقيت منه هذه البقية. فقال أبو الحكم : هذا بلدٌ لا يحل لذي عقلٍ أن يتعداه. ودخل وارتاد منزلاً وسكنه وفتح دكان عطارٍ يبيع به العطر ويطب وأقام على ذلك إلى أن أتى أجله

” المستنجد بن المقتفي ”
لما اشتد مرض المقتفي وكان ولي عهده ابنه يوسف وكانت للمقتفي حظيةٌ هي أم ولده أبي علي فأرادت الخلافة لابنها وأحضرت عدةً من الجواري وأعطتهن السكاكين وأمرتهن بقتل ولي العهد يوسف إذا دخل على والده. وكان ليوسف خصيٌ صغيرٌ يرسله كل وقتٍ يتعرف أخبار والده فرأى الجواري بأيديهن السكاكين فعاد إلى يوسف وأخبره فاستدعى أستاذ الدار وأخذه معه وجماعة من الفراشين ودخل الدار وقد لبس الدرع وأخذ بيده السيف. فلما دخل ثار به الجواري فضرب واحدةً منهن فجرحها وكذلك أخرى وصاح فدخل أستاذ الدار ومعه الفراشون فهرب الجواري وأخذ أخاه أباه علي وأمه فسجنهما وأخذ الجواري وقتل منهن وغرق منهن. فلما توفي المقتفي جلس يوسف ابنه للبيعة فبويع له ولقب المستنجد بالله وخطب له في ربيع الأول سنة خمسٍ وخمسين وخمسمائة
و في سنة ستٍ وخمسين في صفر توفي الفائز عيسى بن الظافر اسمعيل صاحب مصر وكانت خلافته ست سنين وولي الأمر بعده بمصر عبد الله بن يوسف بن الحافظ ولقب العاضد لدين الله وهو آخر الخلفاء العلويين بالديار المصرية. وفي سنة تسعٍ وخمسين وخمسمائة هرب شاور وزير العاضد صاحب مصر من ضرغام الذي نازعه في الوزارة إلى الشام ملتجئاً إلى نور الدين ومستجيراً به وطلب منه إرسال العساكر معه إلى مصر ليعود إلى منصبه ويكون له ثلث دخل البلاد. فتقدم نور الدين بتجهيز الجيوش وقدم عليه أسد الدين شيركوه فتجهز وساروا جميعاً وشاور في صحبتهم ووصل أسد الدين والعساكر إلى مدينة بلبيس. فخرج إليهم أخو ضرغام بعسكر المصريين ولفيهم فانهزم. وخرج ضرغام من القاهرة فقتل وقتل أخوه أيضاً. وخلع على شاور وأعيد إلى الوزارة. وأقام أسد الدين بظاهر القاهرة فغدر به شاور وعاد عما كان قرره لنور الدين وأرسل إلى الفرنج يستمدهم فسارعوا إلى تلبية دعوته ونصرته وتجهزوا وساروا. فلما قارب الفرنج مصر فارقها أسد الدين وقصد مدينة بلبيس وجعلها ظهراً يتحصن به فحصره بها العساكر المصرية والفرنج ثلاثة أشهر وهو يغاديهم القتال ويراوحهم فلم يبلغوا منه غرضاً. فراسل الفرنج أسد الدين في الصلح والعود إلى الشام فأجابهم إلى ذلك وصار إلى الشام.
و في سنة ثلاث وستين وخمسمائة فارق زين الدين علي بن سبكتكين النائب عن قطب الدين مودود بن زنكي صاحب الموصل خدمة صاحبه بالموصل وسار إلى إربل وكان هو الحاكم في الدولة وأكثر البلاد بيده. فلما عزم على مفارقة الموصل إلى بيته بإربل سلم جميع ما كان بيده من البلاد إلى قطب الدين مودود وبقي معه إربل حسبُ. وكان شجاعاً عادلاً حسن السيرة سليم القلب كثير العطاء للجند وغيرهم مدحه الحيص بيص بقصيدةٍ فلما أراد أن ينشده قال : أنا لا أعرف ما تقول ولكني أعلم أنك تريد شيئاً. وأمر له بخمسمائة دينار وفرس وخلعة سنية وثياب مجموع ذلك ألف دينار ولم يزل بإربل إلى أن مات بها هذه السنة
وفي سنة أربع وستين وخمسمائة ملك نور الدين قلعة جعبر. وملك أسد الدين شيركوه مصر وقتل الوزير. ولما ثبت قدم أسد الدين وظن أن لم يبق له منازع أتاه أجله فتوفي يوم السبت الثاني والعشرين من جمادى الآخرة وكانت ولايته شهرين. وأما ابتداء أمره فإنه كان هو وأخوه نجم الدين أيوب ابنا شاذي من بلد دوين وأصلهما من الأكراد الروادية فقدما العراق وخدما مجاهد الدين بهروز شحنة بغداد. فرأى من نجم الدين أيوب عقلاً ورأياً وكان أكبر من شيركوه فجعله مستحفظاً لقلعة تكريت. فسار إليها ومعه أخوه شيركوه. ثم أن شيركوه قتل كاتباً نصرانياً بتكريت لملاحاةٍ جرت بينهما فأخرجهما بهروز من قلعة تكريت فسارا إلى زنكي. ولما ملك بعلبك جعل أيوب مستحفظاً لها فلما قتل زنكي وتسلم عسكر دمشق بعلبك صار هو أكبر الأمراء بدمشق واتصل أخوه شيركوه بنور الدين فأقطعه حمص والرحبة وجعله مقدم عسكره. فلما أراد أن يرسل العسكر إلى مصر لم ير هناك من يصلح لهذا الأمر العظيم والمقام الخطير غيره فأرسله فملكها
ولما توفي أسد الدين شيركوه طلب جماعة من الأمراء النورية ولاية الوزارة للعاضد العلوي صاحب مصر فأرسل العاضد إلى صلاح الدين بن أيوب بن شاذي أحضره عنده وخلع عليه وولاه الوزارة بعد عمه ولقبه الملك الناصر وكان اسمه يوسف. فكان الذي حمله على ذلك أن أصحابه قالوا له :ليس في الجماعة أضعف ولا أصغر سناً من يوسف فإذا ولي لا يرفع علينا رأساً مثل غيره. فثبت قدم صلاح الدين ومع هذا فهو نائب عن نور الدين وكان نور الدين يكاتبه بالأمير الاسفهسلار ويكتب علامته على رأس الكتاب تعظيماً عن أن يكتب اسمه وكان لا يفرده بكتاب بل يكتبه : الأمير الاسفهسلار صلاح الدين وكافة الأمراء بالديار المصرية يفعلون كذا وكذا. واستمال صلاح الدين قلوب الناس وبذل الأموال فمالوا إليه وأحبوه وضعف أمر العاضد. ثم أرسل صلاح الدين يطلب من نور الدين أن يرسل إليه إخوته وأهله فأرسلهم إليه وشرط عليهم طاعته
وفي سنة خمسٍ وستين وخمسمائة في شوال مات قطب الدين مودود بن زنكي ابن اقسنقر صاحب الموصل. ولما اشتد مرضه أوصى بالملك بعده لابنه الأكبر عماد الدين زنكي ثم عدل عنه إلى ابنه الآخر وهو سيف الدين غازي وإنما فعل ذلك لأن القيم بأمور دولته كان خادماً له يقال له فخر الدين عبد المسيح وكان يكره عماد الدين لأنه كان طوع عمه نور الدين وكان نور الدين يبغض عبد المسيح فاتفق عبد المسيح وخاتون ابنة حسام الدين تمرتاش بن ايلغازي وهي والدة سيف الدين علي صرف الملك عن عماد الدين إلى سيف الدين. ورحل عماد الدين إلى عمه نور الدين مستنصراً به ليعينه على أخذ الملك لنفسه
وفي سنة ستٍ وستين وخمسمائة تاسع ربيع الآخرتوفي الإمام المستنجد بالله أبو المظفر يوسف بن المقتفي وكانت خلافته إحدى عشرة سنة وعمره ستاً وخمسين سنة. وكان من أحسن الخلفاء سيرةً مع الرعية عادلاً قبض على إنسان كان يسعى بالناس فأطال حبسه فشفع فيه بعض أصحابه المختصين بخدمته وبذل عنه عشرةآلاف دينار. فقال : أنا أعطيك عشرة آلاف دينار وتحضر لي إنساناً آخر مثله أحبسه فأكف شره عن الناس. ولم يطلقه. وكان سبب موته أنه كتب إلى وزيره مع طبيبه ابن صفية يأمره بالقبض على أستاذ الدار وقطب الدين قايماز وصلبهما وكان قد اشتد مرضه. فاجتمع الطبيب بهما وأوقفهما على الخط. فقالا له : عد إليه وقل له : إنني أوصلت الخط إلى الوزير وفعل ذلك. ثم دخل المذكوران على المستنجد ومعهما أصحابهما فحملوه وهو يستغيث إلى الحمام وألقوه وأغلقوا الباب عليه وهو يصيح إلى أن مات

” المستضيء بن المستنجد ”
ولما أظهروا موت المستنجد أحضر ابنه أبو محمد الحسن وبايعه أهل بيته البيعة الخاصة يوم توفي أبوه أي تاسع ربيع الآخر سنة ست وستين وخمسمائة وبايعه الناس من الغد في التاج بيعةً عامةً ولقب المستضيء بأمر الله وأظهر من العدل أضعاف ما عمل أبوه وفرق أموالاً جليلة المقدار. ولما بلغ نور الدين محمود ابن زنكي وفاة أخيه قطب الدين مودود صاحب الموصل وملك ولده سيف الدين غازي الموصل وتحكم فخر الدين عبد المسيح عليه أنف لذلك وسار بجريدةٍ في قلةٍ من العسكر وعبر الفرات عند قلعة جعبر وملك الرقة والخابور ونصيبين وحاصر سنجار وملكها وسلمها إلى عماد الدين ابن أخيه وأتى مدينة بلد وعبر دجلة عندها مخاضةً إلى الجانب الشرقي ونزل على حصن نينوى. ومن العجب أنه يوم نزوله سقط من سور الموصل بدنةً كبيرةً فأرسل فخر الدين عبد المسيح إلى نور الدين في تسليم البلد إليه على أن يقره بيد سيف الدين ويطلب لنفسه الأمان ولماله وأهله فأجيب إلى ذلك وشرط أن فخر الدين يأخذه معه إلى الشام ويعطيه إقطاعاً مرضية. فتسلم البلد ودخل القلعة وأمر بعمارة الجامع النوري وسلم الموصل إلى سيف الدين وسنجار لعماد الدين وعاد إلى الشام واستصحب معه فخر الدين عبد المسيح وكان مقامه بالموصل أربعة وعشرين يوماً. وفي سنة سبعٍ وستين وخمسمائة لما ثبت قدم صلاح الدين بمصر وضعف أمر الخليفة العاضد بها وصار قصره يحكم فيه صلاح الدين ونائبه قراقوش وقو خصي من أعيان الأمراء الأسدية كلهم يرجعون إليه عزم على قطع خطبة العاضد وكان يخاف المصريين. وكان قد دخل إلى مصر رجلٌ أعمى يعرف بالأمير العالم فلما رأى ما هو فيه من الإحجام وأن واحداً لا يتجاسر يخطب للعباسيين قال : أنا أبتدئ بالخطبة للمستضيء. فلما كان أول جمعة من المحرم صعد المنبر قبل الخطيب ودعا للمستضيء فلم ينكر أحدٌ ذلك فقطع الخطباء كلهم بمصر خطبة العاضد وخطبوا للمستضيء ولم ينتطح فيها عنزان. وتوفي العاضد يوم عاشوراء ولم يعلموه بقطع خطبته

وفيها عبر الخطا نهر جيحون يريدون خوارزم. فسار صاحبها خوالازم شاه أرسلان بن اقسز في عساكره إلى أموية ليقاتلهم ويصدهم فمرض فأقام بها وسير جيشه مع أميرٍ كبيرٍ فلقيهم فانهزم الخوارزميون وأسر مقدمهم ورجع به الخطا إلى ما وراء النهر. وعاد خوارزم شاه إلى خوارزم مريضاً وتوفي بها وملك بعده ابنه سلطان شاه محمود. وكان ابنه الأكبر علاء الدينتكش مقيماً في جند فقصد ملك الخطا واستمده علىأخيه فسير معه جيشاً كثيفاً مقدمهم فوما وساروا حتى قاربوا خوارزم فخرج سلطان شاه منها ومعه أمه وقصد خراسان وملك تكش خوارزم. وفي سنة تسعٍ وستين وخمسمائة توفي نور الدين محمود بن زنكي بن اقسنقر صاحب الشام وديار الجزيرة ومصر يوم الأربعاء حادي عشر شوال ولم يكن في سير الملوك أحسن من سيرته ولا أكثر تحرياً للعدل منه وكان لا يأكل ولا يلبس ولا يتصرف في الذي يخصه إلا من ملكٍ كان له قد اشترته من سهمه من الغنيمة. ولقد شكت إليه زوجته من الضائقة فأعطاها ثلاثة دكاكين في حمص كانت له يحصل منها في السنة نحو العشرين ديناراً. فلما استقلتها قال : ليس لي إلا هذا وجميع ما بيدي أنا فيه خازنٌ للمسلمين لا أخونهم فيه ولا أخوض نار جهنم لأجلكِ. ولما مات ملك بعده ابنه الملك الصالح اسمعيل وكان عمره إحدى عشرة سنة وأطاعته الناس بالشام وصلاح الدين بمصر وخطب له بها وضرب السكة باسمه. وفي سنة سبعين وخمسمائة لما ملك سيف الدين غازي الديار الجزرية خاف الأمراء الذين في دمشق وحلب لئلا يعبر إليهم سيف الدين فسيروا الملك الصالح ومعه العساكر إلى حلب ليصد سيف الدين عن العبور إلى الشام. فلما خلت دمشق عن السلطان والعساكر سار إليها صلاح الدين فملكها وملك بعدها حمص وحماة وبعلبك وسار إلى حلب فحصرها. فركب الملك الصالح وهو صبي عمره اثنتا عشرة سنة وجمع أهل حلب وقال لهم : قد عرفتم إحسان أبي إليكم ومحبته لكم وسيرته فيكم وأنا يتيمكم وقد جاء هذا الظالم الجاحد إحسان والدي إليه يأخذ بلدي ولا يراقب الله ولا الخلق. وقال من هذا كثيراً وبكى فأبكى الناس واتفقوا على القتال دونه فكانوا يخرجون ويقاتلون صلاح الدين عند جبل جوشن ولا يقدر على القرب من البلد فرحل عنه. وفيها ملك البهلوان مدينة تبريز. وفي سنة إحدى وسبعين ملك صلاح الدين قلعة عزاز ونازل حلب وبها الملك الصالح وقد أقام العامة في حفظ البلد المقام المرضي وترددت الرسل بينهم في الصلح فوقعت الإجابة إليه من الجانبين ورحل صلاح الدين عن حلب بعد أن أعاد قلعة عزاز إلى الملك الصالح فإنه أخرج إلى صلاح الدين أختاً له صغيرةً طفلة. فأكرمها صلاح الدين وقال لها : ما تريدين. قالت : أريد قلعة عزاز. وكانوا قد علموها ذلك. فسلمها إليهم ورحل. وفي سنة ثلاث وسبعين قتل عضد الدين وزير الخليفة المستضيء ووزر ظهير الدين المعروف بابن العطار وكان خيراً حسن السيرة كثير العطاء وتمكن تمكناً كثيراً

وفي سنة خمسٍ وسبعين وخمسمائة ثاني ذي القعدة توفي الإمام المستضيء بأمر الله وكانت خلافته نحو تسع سنين وعمره تسع وثلاثون سنة وكان عادلاً حسن السيرة في الرعية قليل المعاقبة على الذنوب محباً للعفو فعاش حميداً ومات سعيداً

وكان في هذا الزمان من الحكماء المشهورين بالمشرق السموءل بن ايهوذا المغربي الأندلسي الحكيم اليهودي قدم هو وأبوه إلى المشرق وكان أبوه يشدو شيئاً من الحكمة وكان ولده السموءل قد قرأ فنون الحكمة وقام بالعلوم الرياضية وأحكم أصولها وفوائدها ونوادرها وله في ذلك مصنفات وصنف كتباً في الطب وارتحل إلى أذربيجان وخدم بيت بهلوان وأمراء دولتهم وأقام بمدينة مراغة وأولد أولاداً هناك سلكوا طريقته في الطب ثم أسلم وصنف كتاباً في إظهار معايب اليهود ومواضع الدليل على تبديلهم التوراة ومات بالمراغة قريباً من سنة سبعين وخمسمائة. وكان في هذا الأوان أيضاً الرحبي الطبيب نزيل دمشق من أهل الرحبة أصله كان من الرحبة حسن المعالجة لطيف المباشرة نزه النفس يعاني التجارة ورزق بها مالاً جماً وأولاداً مرضيي الطريقة لهم اشتغال جيد في هذا الفن وكان كثير التنعم حسن المركب والملبس والمأكل والمنزل يلزم في أموره قوانين حفظ الصحة الموجودة. وقيل له : ما ثمرة هذا. قال : أن يعيش الإنسان العمر الطبيعي. فقيل له : أنت قد بلغت من السن ما لم يبق بينك وبين العمر الطبيعي إلا القليل فأي حاجةٍ إلى هذا التكلف. فقال : لأبقي ذلك القليل فوق الأرض وأستنشق الهواء وأتجرع الماء ولا أكون تحت التراب بسوء التدبير. ولم يزل على حالته إلى أن أتاه أجله في أوائل سنة اثنتين وثلاثين وستمائة وخلف ثلاثة بنين اثنان منهم طبيبان فاضلان وسيأتي ذكرهما. قال الرحبي هذا : استدعاني نور الدين محمود في مرضه الذي توفي فيه مع غيري من الأطباء فدخلنا إليه وهو في بيتٍ صغير بقلعة دمشق وقد تمكنت منه الخوانيق وقارب الهلاك فلا يكاد يسمع صوته وكان يخلو فيه للتعبد فابتدأ به المرض فلم ينتقل عنه. فلما دخلنا ورأينا ما به قلت له : كان ينبغي أن لا تؤخر احضارنا إلى أن يشتد بك المرض. الآن ينبغي أن تعجل الانتقال من هذا الموضع إلى مكان فسيح مضيء فله أثر في هذا المرض. وشرعنا في علاجه وأشرنا بالفصد فقال : ابن الستين لا يفتصد. وامتنع عنه فعالجناه بغيره فلم ينجع فيه الدواء

” الناصر بن المستضيء ”
و لما مات المستضيء قام ظهير الدين ابن العطار في أخذ البيعة لولده الناصر لدين الله أبي العباس أحمد. فلما تمت البيعة صار الحاكم في الدولة مجد الدين أبو الفضل بن الصاحب. وفي سابع ذي القعدة سنة خمسٍ وسبعين وخمسمائة قبض على ابن العطار ووكل عليه في داره ثم نقل إلى التاج وقيد وطلبت ودائعه وأمواله ثم أخرج ميتاً على رأس حمالٍ سراً فغمز به بعض العامة فثار به العامة فألقوه عن رأس الحمال وكشفوا سوءته وشدوا في ذكره حبلاً وسحبوه في البلد وكانوا يضعون بيده مغرفةً ويقولون : وقع لنا يا مولانا. إلى غير ذلك من الأفعال الشنيعة. ثم خلص من أيديهم ودفن. هذا فعلهم به مع حسن سيرته فيهم وكفه عن أموالهم وأراضهم. وفي سنة ستٍ وسبعين ثالث صفر توفي سيف الدين غازي بن مودود بن زنكي صاحب الموصل وولي أخوه عز الدين الموصل وأعطى جزيرة ابن عمر وقلاعها لولده معز الدين سنجر شاه وأعطى قلعة شوش وبلد الحميدية لابنه الصغير ناصر الدين كبك وكان المدبر لدولة عز الدين مجاهد الدين قيماز واستقرت الأمور ولم يختلف اثنان

وفيها توفي شمس الدولة تورانشاه بم أيوب أخو صلاح الدين الأكبر بالإسكندرية.و في سنة سبعٍ وسبعين في رجب توفي الملك الصالح اسمعيل بن نور الدين محمود صاحب حلب بها وعمره نحو تسع عشرة سنة. فلما آيس من نفسه أحضر الأمراء ووصاهم بتسليم البلد إلى ابن عمه عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي فتسلم حلب ثم سلمها لأخيه عماد الدين وأخذ عوضاً عنها مدينة سنجار. وفي سنة ثماني وسبعين سير صلاح الدين أخاه سيف الإسلام طغتكين إلى اليمن فتملكها وتغلب عليها. وفيها عبر صلاح الدين الفرات إلى الديار الجزرية وملك الرها وحران والرقة وقرقيسياء وماكسين وعربان ونصيبين وسار إلى الموصل وبها عز الدين صاحبها ونائبه مجاهد الدين قد جمعا بها العساكر الكثيرة من فارسٍ وراجلٍ وأظهرا من السلاح وآلات الحصار ما حارت له الأبصار. فلما قرب صلاحالدين من البلد رأى ما هاله وملأ صدره وصدور أصحابه ومع هذا نزل عليها وأنشب القتال. وخرج إليه يوماً بعض العامة فنال منه وأخذ لالكة من رجله فيها المسامير الكثيرة ورمى بها أميراً يقال له جاولي الأسدي وهو مقدم الأسدية وكبيرهم فأصاب صدره فوجد لذلك الماً شديداً وأخذ اللالكة وعاد عن القتال إلى صلاح الدين وقال له : قد قابلنا أهل الموصل بحماقاتٍ ما رأينا مثلها بعد. وألقى اللالكة وحلف أنه لا يعود يقاتل عليها أنفةً حيث ضرب بها. فلما رأى صلاح الدين أنه لا ينال من الموصل غرضاً ولا يحصل على غير العناء والتعب سار عنها إلى سنجار وملكها. وفي سنة تسعٍ وسبعين ملك صلاح الدين مدينة آمد وسلمها إلى نور الدين محمد بن قرا أرسلان صاحب الحصن وكان صلاح الدين قد نزل بحرزم وطمع أن يملك ماردين فلم ير لطمعه وجهاً فسار عنها إلى إلى آمد على طريق البارعية. وفيها سار صلاح الدين إلى حلب فنزل بجبل جوشن وأظهر أنه يريد يبني مساكن له ولأصحابه وعساكره. فمال عماد الدين زنكي إلى تسليم حلب وأخذ العوض عنها فتقرر الصلح على أن يسلم حلب إلى صلاح الدين ويأخذ عوضها سنجار ونصيبين والخابور والرقة وسروج. وجرت اليمين على ذلك فباعها بأوكس الأثمان أعطى حصناً مثل حلب وأخذ عوضها قرىً ومزارع فقبح الناس كلهم ما أتى

وفي سنة ثمانين وخمسمائة مات قطب الدين بن إيلغازي بن نجم الدين البي بن تمرتاش ابن إيلغازي بن أرتق صاحب ماردين وملك بعده ابنه حسام الدين يولق أرسلان وهو طفل وكان شاه أرمن صاحب خلاط خال قطب الدين فحكم في دولته بعد موته فرتب نظام الدين التقش مع ولده وقام بتربيته وتدبير مملكته وكان دياً خيراً فأحسن تربية الولد وتزوج أمه فلما كبر الولد لم يمكنه النظام من مملكته لخبطٍ وهوجٍ كان فيه. ولم يزل الأمر على ذلك إلى أن مات الولد وله أخ أصغر منه لقبه قطب الدين فرتبه النظام في الملك وليس له منه إلا الاسم والحكم إلى النظام وإلى مملوكٍ له اسمه لؤلؤ فبقي كذلك إلى سنة إحدى وستمائة. فمرض التقش النظام فأتاه قطب الدين يعوده فلما خرج من عنده خرج معه لؤلؤ فضربه قطب الدين بسكينٍ معه فقتله. ثم دخل إلى النظام فقتله أيضاً وخرج وحده ومعه غلامٌ له وألقى الرأسين إلى الأجناد فأذعنوا له بالطاعة واستولى على قلعة ماردين وقلعة البارعية والصور وحكم فيها وحزم في أفعاله

وفي سنة إحدى وثمانين وخمسمائة حصر صلاح الدين الموصل مرةً ثانيةً فسير أتابك عز الدين صاحبها والدته إليه ومعها ابنة عمه نور الدين محمود وغيرهما من النساء وجماعة من أعيان الدولة يطلبون المصالحة. وكل من عنده ظنوا أنهن إذا طلبن منه الشام أجابهن إلى ذلك لا سيما ومعهن ابنة مخدومه وولي نعمته نور الدين. فلما وصلن غليه أنزلهن واعتذر بأعذارٍ غير مقبولةٍ وأعادهن خائباتٍ. فبذل العامة غيظاً وحنقاً لرده النساء. فندم صلاح الدين على رد النساء وجاءته كتب القاضي الفاضل وغيره يقبحون فعله وينكرونه. وكان عامة الموصل يعبرون دجلة فيقاتلون من الجانب الشرقي من العسكر ويعودون. فعزم صلاح الدين على قطع دجلة عن الموصل إلى ناحية نينوى ليعطش اهل الموصل فيملكها بغير قتال ثم علم أنه لا يمكن قطعه بالكلية وإن المدة تطول والتعب يكثر فأعرض عنه ورحل إلى ميافارقين لأنه سمع أن شاه أرمن صاحب خلاط توفي ولم يخلف ولداً وقد استولى على بلاده مملوكٌ اسمه بكتمر. فسير صلاح الدين في مقدمته ابن عمه ناصر الدين محمد بن شيركوه ومظفر الدين بن زين الدين وغيرهما فساروا إلى خلاط فنزلوا بطوانة. وسار صلاح الدين إلى ميافارقين وسار البهلوان بن ايلدكر صاحب أذربيجان فنزل قريباً من خلاط وترددت رسل أهل بينهم وبين البهلوان وصلاح الدين. ثم أنهم أصلحوا أمرهم مع البهلوان وصاروا من حزبه وخطبوا له

وفي سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة توفي البهلوان محمد بن ايلدكر صاحب بلاد الجبل والري وأصفهان وأذربيجان وأران وملك بعده أخوه قزل أرسلان واسمه عثمان. وفي سنة ثلاث وثمانين ملك صلاح الدين مدينة طبرية وقلعتها وسار عنها ونزل على عتكة. ولما صمم على الزحف إلى البلد خرج الأعيان من أهلها إليه يطلبون الأمان فأجابهم إلى ذلك وأمنهم على نفوسهم وأموالهم وخيرهم بين الإقامة والظعن فاختاروا الرحيل وساروا منها متفرقين وحملوا ما أمكنهم من أموالهم وتركوا الباقي على حاله. وسلم صلاح الدين البلد إلى ولده الفضل وغنم المسلمون ما بقي مما لم يطق الفرنج حمله. وفيها ملك صلاح الدين قيسارية وحيفا وصفورية والشقيف والفولة. ويافا وتبنين وصيدا وبيروت وجبيل وعسقلان

ولما فرغ صلاح الدين من أمر هذه الأماكن سار إلى بيت المقدس فلما نزل عليه المسلمون رأوا على سوره من الرجال ما هالهم وبقي صلاح الدين خمسة أيام يطوف حول المدينة لينظر من أين يقاتل لأنه في غاية الحصانة والامتناع فلم يجد عليه موضع قتال إلا من جهة الشمال نحو باب عمود أو كنيسة صهيون فانتقل إلى هذه الناحية في العشرين من رجب فنزلها ونصب تلك الليلة المنجنيقات ونصب الفرنج على سور البلد المنجنيقات وتقاتل الفريقان أشد قتال كل منهما يرى ذلك ديناً وحتماً واجباً فلا يحتاج فيه إلى باعث سلطاني بل كانوا يمنعون ولا يمتنعون ويزجرون ولا ينزجرون. فلما رأى الفرنج شدة قتال المسلمين وتحكم المنجنيقات بالرمي المتدارك وتمكن النقابين من النقب أرسلوا باليان بن نيرزان صاحب الرملة إلى صلاح الدين يطلب الأمان. فأبى السلطان وقال : لا أفعل بكم إلا كما فعلتم بالمسلمين حين ملكتموه سنة إحدى وتسعين وأربعمائة من القتل والسبي. فقال له باليان : ايها السلطان العظيم اعلم أننا في هذه المدينة في خلقٍ كثير وإنما يفترون عن القتال رجاء الأمان. فإذا رأينا الموت لا بد منه فوالله لنقتلن أولادنا ونساءنا ونحرق أموالنا ولا نترككم تغنمون منا ديناراً ولا درهماً ولا تسبون وتأسرون رجلاً أو امرأة. فإذا فرغنا من ذلك أخربنا الصخرة والمسجد الأقصى ثم نقتل من عندنا من اسارى المسلمين وهم خمسة آلاف أسير ولا نترك لنا دابةً ولا حيواناً إلا قتلناه ثم خرجنا إليكم كلنا وحينئذٍ لا يقتل الرجل منا حتى يقتل أمثاله ونموت أعزاء أو نظفر كرماء فاستشار صلاح الدين أصحابه فأجمعوا على إجابتهم إلى الأمان وأن لا يحرجوا ويحملوا على كوب ما لا يدري عاقبة الأمر فيه عن أي شيءٍ ينجلي. فأجاب صلاح الدين حينئذٍ إلى بذل الأمان للفرنج واستقر أن يزن الرجل عشرة دنانير يستوي فيه الغني والفقير وتزن المرأة خمسة دنانير ويزن الطفل من الذكور والإناث دينارين فمن أدى ذلك إلى أربعين يوماً فقد نجا وإلا صار مملوكاً. فبذل باليان عن الفقراء ثلاثين ألف دينار فأجيب إلى ذلك وسلمت المدينة يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب

ولما فرغ صلاح الدين من أمر بيت المقدس سار إلى مدينة صور وقد خرج إليها المركيس وصار صاحبها وقد ساسها أحسن سياسة. فقسم صلاح الدين القتال على العسكر كل جمع لهم وقتٌ معلوم يقاتلون فيه بحيث يتصل القتال على أهل البلد على أن الموضع الذي يقاتلون فيه قريب المسافة تكفيه الجماعة اليسيرة من أهل البلد تحفظه وعليه الخنادق التي قد وصلت إلى البحر فلا يكاد الطائر يطير عليها لأن المدينة كالكف في البحر والساعد متصل بالبر والبحر في جانبي الساعد والقتال إنما هو في الساعد فلذلك لم يتمكن منها صلاح الدين ورحل عنها. وكان للمسلمين خمس قطعٍ من الشواني مقابل ميناء صور ليمنعوا من الخروج منه والدخول إليه فنازلتهم شواني الفرنج وقت السحر وضايقتهم وأوقعت بهم فقتلوا من أرادوا وأخذوا الباقين بمراكبهم وأدخلوهم ميناء صور والمسلمون من البر ينظرون إليهم. ورمى جماعةٌ من المسلمين أنفسهم من الشواني فمنهم من سبح ونجا منهم من غرق. وفي سنة أربع وثمانين فتح صلاح الدين جبلة واللاذقية وصهيون وشغر بكاس ودربساك وبغراس والكرك وصفد. وهادن صلاح الدين البرنس بيموند صاحب إنطاكية وطرابلس ثمانية أشهر

وفي سنة سبع وثمانين وصلت إمداد الفرنج في البحر إلى الفرنج النازلين على عكة يحاصرونها. وكان أول من وصل منهم فيليب ملك افرنسيس وهو من أشرف ملوكهم نسباً وإن كان ملكه ليس بالكثير فقويت به نفوسهم أي الذين كانوا على عكة ولجوا في قتال المسلمين الذين فيها. وكان صلاح الدين على شفرعم فكان يركب كل يوم ويقصد الفرنج ليشغلهم بالقتال على مزاحفة البلد وكان فيه الأمير سيف الدين الهكاري المعروف بالمشطوب فلما رأى أن صلاح الدين لا يقدر لهم على نفعٍ ولا يدفع عنهم ضراً خرج إلى الفرنج وقرر معهم تسليم البلد وخرج من فيه بأموالهم وبذل لهم عن ذلك مائتي ألف دينار وخمسمائة أسير من المعروفين وإعادة صليب الصلبوت وأربعة عشر ألف دينار للمركيس صاحب صور فأجابوه إلى ذلك وأن تكون مدة تحصيل المال والأسراء إلى شهرين. فلما حلفوا له سلم البلد إليهم فدخله الفرنج سلماً واحتاطوا على من فيه من المسلمين وعلى أموالهم وحبسوهم إلى حين ما يصل إليهم ما بذل لهم وراسلوا صلاح الدين في إرسال المال والأسرى والصليب حتى يطلقوا من عندهم. فشرعوا في جمع المال وكان هو لا مال له إنما يخرج ما يصل إليه من دخل البلاد أولاً بأول فلما اجتمع عنده من المال مائة ألف دينار أشار الأمراء بأن لا يرسل شيئاً حتى يعاود يستحلفهم على الإطلاق من أصحابه. فقال ملوك الفرنج : نحن لا نحلف إنما ترسل إلينا المائة الألف ديناراً التي حصلت والأسارى والصليب ونحن نطلق من نريد ونترك من نريد حتى يجيء باقي المال فنطلق الباقين منهم. فلم يجبهم السلطان إلى ذلك. فلما كان يوم الثلاثاء السابع والعشرون من رجب ركب الفرنج وخرجوا ظاهر البلد بالفارس والراجل وركب المسلمون إليهم وحملوا عليهم فانكشفوا عن موقفهم وإذا أكثر من كان عندهم من المسلمين قتلى قد وضعوا فيهم السيف وقتلوهم واستبقوا الأمراء ومن كان له مال وقتلوا من سواهم من سوادهم وأصحابهم ومن لا مالله. فلما رأى صلاح الدين ذلك رحل إلى ناحية عسقلان وأخربها. وفي سنة ثمان وثمانين رحل الفرنج نحو عسقلان وشرعوا في عمارتها. وفبها عقدت الهدنة بين صلاح الدين والانكتار ملك الفرنج لمدة ثلاث سنين وثمانية أشهر أولها يوم أول أيلول

وفيها منتصف شعبان توفي السلطان قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان ابن سليمان بن قتلميش بن سلجوق بمدينة قونية وكان ذا سياسةٍ حسنةٍ وهيبةٍ عظيمةٍ وعدلٍ وافرٍ وغزواتٍ كثيرةٍ إلى بلاد الروم. فلما كبرفرق بلاده على أولاده فاستضعفوه ولم يلتفتوا إليه وحجر عليه ولده قطب الدين. ثم أخذه وسار به إلى قيسارية ليأخذها من أخيه فحصرها مدةً فهرب منه والده ودخل إلى قيسارية. ولم يزل قلج أرسلان يتحول من ولدٍ إلى ولدٍ وكل منهم يتبرم به حتى مضى إلى ولده غياث الدين كيخسرو فسار معه لإي عساكره إلى قونية فملكها وبها توفي قلج أرسلان ويقي ولده غياث الدين في قونية مالكاً لها حتى أخذها منه أخوه ركن الدين

وفي سنة تسعٍ وثمانين وخمسمائة توفي صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شاذي بدمشق وعمره سبع وخمسون سنة وكان حليماً كريماً حسن الأخلاق متواضعاً صبوراً على ما يكره كثير التغافل عن ذنوب أصحابه. وحكي أنه كان يوماً جالساً وعنده جماعةٌ فرمى بعض المماليك بعضاً بسرموزةٍ فأخطأته ووصلت إلى صلاح الدين فوقعت بالقرب منه. فالتفت إلى الجهة الأخرى يكلم جليسه هناك ليتغافل عنها. وطلب مرةً الماء فلم يحضر فعاود الطلب في مجلسٍ واحدٍ خمس مراتٍ فلم يحضر فقال : يا أصحابنا والله قد قتلني العطش. وأما كرمه فإنه كان كثير البذل لا يقف في شيءٍ يخرجه. ويكفي دليلاً على كرمه أنه لما مات لم يخلف في خزانته غير دينارٍ واحدٍ صوري وأربعين درهماً ناصرية. ولما توفي صلاح الدين ملك بعده ولده الأكبر الأفضل نور الدين دمشق والساحل والبيت المقدس وبعلبك وصرخد وبصرى وبانياس وهونين وتبنين إلى الداروم. وكان ولده الملك العزيز عثمان بمصر فاستولى عليها. وكان ولده الملك الظاهر غازي بحلب فملكها وأعمالها مثل حارم وتل باشر واعزاز ودربساك ومنبج. وكان بحماة محمد بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب فأطاع الملك الظاهر. وكان بحمص شيركوه ابن محمد بن شيركوه فأطاع الملك الأفضل. وكان الملك العادل أخو صلاح الدين بالكرك فسار إلى دمشق. فجهز الأفضل معه عسكراً وسار إلى بلاد الجزرية وهي له ليمنعها من عز الدين صاحب الموصل. وفيها أول جمادى الأولى قتل سيف الدين بكتمر صاحب خلاط وكان بين قتله وموت صلاح الدين شهران. فإنه أسرف في إظهار الشماتة بموت صلاح الدين وفرح كثيراً فلم يمهله الله تعالى. وملك بعده ظهير الدين هزار ديناري خلاط وهو أيضاً من مماليك شاه أرمن. وفيها سلخ شعبان توفي اتابك عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي بن اقسنقر صاحب الموصل بالموصل وملك بعده ابنه نور الدين أرسلان شاه. وكان عز الدين خيراً محسناً حليماً قليل المعاقبة حيياً كثير الحياء لم يكلم جليساً له إلا وهو مطرق وما قال في شيءٍ سئله حباً وكرم طبع

وفي سنة إحدى وتسعين وخمسمائة كتبالفنش ملك الفرنج ومقر ملكه طليطلة إلى يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن كتاباً يقول فيه : إنك أمير المسلمين ولا يخفى عليك ما هم عليه رؤساء الأندلس من التخاذل وإهمال الرعية واشتمالهم على الراحات وأنا أسومهم الخسف وأخلي الديار وأسبي الذراري وأمثل بالكهول وأقتل الشبان ولا عذر لك في التخلف عن نصرتهم وأنت تعتقد أن الله فرض عليكم قتال عشرةٍ منا بواحدٍ منكم. والآن نخفف عنكم فنحن نقاتل عدداً منكم بواحدٍ منا. ثم بلغني عنك أنك أخذت في الاحتفال وتمطل نفسك عاماً بعد عام تقدم رجلاً وتؤخر أخرى ولا أدري الجبن أبطأ بك أم التكذيب بما أنزل عليك. وأنا أقول ما فيه المصلحة أن تتوجه بجملة من عندك في الشواني والمراكب وأجوز إليك بجملتي وأبارزك في أعز الأماكن عندك فإن كانت لك فغنيمةٌ عظيمةٌ جاءت إليك وهدية مثلت بين يديك وإن كانت لي كانت يدي العليا عليك واستحققت ملك الملتين والتقدم على الفئتين. فلما قرأ يعقوب كتابه جمع العساكر وعبر المجاز إلى الأندلس واقتتلوا قتالاً شديداً فكانت الدائرة أولاً على المسلمين ثم عادت على الفرنج فانهزموا أقبح هزيمةٍ وغنم المسلمون منهم شيئاً عظيماً. فلا يفخرن ثروان بثروته ولا جبار بجبروته ومن يفتخر فبالله تعالى فليفتخر كما جاء في الكتاب الإلهي. ثم إن الفنش عاد إلى بلاده وركب بغلاً وأقسم أنه لا يركب فرساً حتى تنصره ملوك فرنجة فجمعوا الجموع العظيمة وجرت لهم مع المسلمين وقائع كثرة إلى أن ملكوا الآن أكثر مدن الأندلس

وفي سنة اثنتين وتسعين سار الملك العزيز من مصر إلى دمشق وحصرها وأرسل إلى أخيه أن يفارق القلعة ويسلم البلد على قاعدة أن تعطى قلعة صرخد له ويسلم جميع أعمال دمشق. فخرج وتسلم العزيز القلعة ودخلها واقام بها أياماً ثم سلمها إلى عمه الملك العادل وعاد إلى مصر فسار الأفضل إلى صرخد. وفي سنة ثلاث وتسعين ملك العادل يافا من الفرنج وملك الفرنج بيروت من المسلمين

وفي سنة أربع وتسعين توفي عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي بن اقسنقر صاحب سنجار ونصيبين والخابور والرقة وملك بعده ابنه قطب الدين محمد وملك نور الدين مدينة نصيبين. وفيها قصد خوارزمشاه بخارا وكان قد ملكها الخطا فنازلها وحصرها وامتنع أهلها منه وقاتلوه مع الخطا لما رأوا من حسن سيرتهم معهم حتى أنهم أخذوا كلباً أعور وألبسوه قباءً وقلنسوةً وقالوا : هذا خوارزمشاه. لأنه كان أعور. وطافوا به على السور ُم ألقوه في منجنيق إلى العسكر وقالوا : هذا سلطانكم. فلم يزل هذا دأبهم حتى ملك خوارزمشاه البلد بعد أيامٍ يسيرةٍ عنوةً وعفا عن أهله وأحسن إليهم

وفيها حصر الملك العادل أبو بكر بن أيوب قلعة ماردين في شهر رمضان وكان صاحبها حسام الدين يولق أرسلان صبياً فسلم بعض أهلها الربض بمخامرة فنهب الهسكر أهلها نهباً قبيحاً فلما تسلم العادل الربض تمكن من حصر القلعة وقطع الميرة عنها وبقي عليها إلى أن رحل عنها سنة خمسٍ وتسعين. وفي سنة
خمسٍ وتسعين في العشرين من المحرم توفي الملك العزيز صاحب مصر وأرسل الأمراء من مصر إلى الأفضل أخيه يدعونه إليهم ليملكوه لأنه كان محبوباً إلى الناس يريدونه فدخل إلى مصر وملكها. وفي سنة ستٍ وتسعين سار العادل فنزل على القاهرة وحصرها فأرسل الأفضل إليه في الصلح فتقرر أن يسلم الديار المصرية إلى ابن عمه ويأخذ العوض عنها ميافارقين وحاني وجبل جور وتحالفوا على ذلك. وخرج الأفضل من مصر وسار إلى صرخد وأرسل من يتسلم ميافارقين وحاني وجبل جور فامتنع نجم الدين أيوب بن الملك العادل من تسليم ميافارقين وسلم ما عداها. فترددت الرسل في ذلك والعادل يزعم أن ابنه عصاه. فأمسك الأفضل عن المراسلة في ذلك لعلمه أن هذا فعله بأمر العادل. وفيها في شهر رمضان توفي خوارزمشاه تكش بن أرسلان وولي ملك خوارزم بعده ابنه قطب الدين محمد ولقب علاء الدين لقب أبيه. وفي سنة سبعٍ وتسعين في شهر رمضان ملك ركن الدين سليمان بن قلج أرسلان مدينة ملطية وكانت لأخيه معز الدين قيصر شاه فسار إليه وحصره أياماً وملكها وسار منها إلى ارزن الروم وكانت لولد الملك محمد بن صلتق وهم بيتٌ قديمٌ قد ملكوا ارزن الروم. فلما قاربها ركن الدين خرج صاحبها إليه ثقةً به ليقرر معه الصلح على قاعدة يؤثرها ركن الدين فقبض عليه واعتقله عنده وأخذ البلد وهذا كان آخر أهل بيته الذين ملكوا. وفيها حصر الملك الظاهر وأخوه الملك الأفضل ابنا صلاح الدين مدينة دمشق وهي لعمهم الملك العدل وعادوا إلى تجديد الصلح على أن يكون للظاهر منبج وأفامية وكفر طاب والمعرة ويكون للأفضل سميساط وقلعة نجم وسروج ورأس عين وجملين. وسار الظاهر إلى حلب والأفضل إلى سميساط ووصل العادل إلى دمشق. وفي سنة تسعٍ وتسعين وخمسمائة في المحرم سير الملك العادل عسكراص مع ولده الملك الأشرف موسى إللا ماردين فحصروها وشحنوا على أعمالها وأقام الأشرف ولم يحصل له غرض. فدخل الملك الظاهر بن صلاح الدين صاحب حلب في الصلح بينهم وأرسل إلى عمه العادل في ذلك فأجاب إليه على قاعدة أن يحمل له صاحب ماردين مائة وخمسين ألف دينار فجاء صرف الدينار أحد عشر قيراطاً من أميري ويضرب اسمه على السكة ويكون عسكره في خدمته أي وقتٍ طلبه

وفيها وهي سنة ألف وخمسمائة وأربع عشرة للإسكندر كان ابتداء دولة المغول وذلك إن في هذا الزمان كان المستولي على قبائل الترك المشارقة أونك خان وهو المسمى ملك يوحنا من القبيلة التي يقال لها كريت وهي طائفةٌ تدين بدين النصرانية وكان رجل مؤيد من غير هذه القبيلة يقال له تموجين ملازماً لخدمة أونك خان من سن الطفولية إلى أن بلغ حد الرجولية وكان ذا بأس في قهر الأعداء فحسده الأقران وسعوا به إلى أونك خان وما زالوا يغتابونه حتى اتهمه بتغير النية وهم باعتقاله والقبض عليه. فانضم إليه غلامان من خدم أونك خان فألماه القضية وعينا له الليلة التي فيها يريد أونك كبسه وفي الحال أمر تموجين أهله بإخلاء البيوت عن الرجال وتركها على حالها منصوبةًو كمن هو مع الرجال بالقرب من البيوت. وفي وقت السحر لما هجم أونك وأصحابه على بيت تموجين لقيها خاليةً من الرجال وكر عليه تموجين وأصحابه من الكمين وأوقعوا بهم وناوشوهم القتال وأثخنوا فيهم وهزموهم وحاربوهم مرتين حتى قتلوه وأبطاله وسبوا ذراريه. وفي أثناء هذا الأمر ظهر بين المغول أميرٌ معتبر كان يسيح في الصحارى والجبال في وسط الشتاء عرياناً حافياً ويغيب أياماً ثم يأتي ويقول : كلمني الله وقال لي أن الأرض بأسرها قد أعطيتها لتموجين وولده وسميته جنكزخان فسماه جنكزخان تبت تنكري وكان يرجع إلى قوله ولا يعدل عن رأيه. ولما علا شأن جنكزخان أرسل الرسل إلى جميع شعوب الترك فمن أطاعه وتبعه سعد ومن خالفه خذل وأنعم على ذينك الغلامين وذريتهم بأن جعلهم ترخانية والترخان هو الحر الذي لا يكلف بشيء من الحقوق السلطانية ويكون ما يغنم من الغزوات له مطلقاً لا يأخذ منه نصيبٌ للملك وزاد لهؤلاء أن يدخلوا على الملوك بغير إذنٍ ولا يعاقبوا على ذنبٍ إلى تسعة ذنوب وكان لجنكز خان من الأولاد الذكور والإناث جماعة وكانت الخاتون الكبيرة زوجته تسمى أويسونجين بيكي. وفي رسم المغول اعتبار أبناء الأب الواحد بالشرف إنما يكون بالنسبة إلى الأمهات. وكان لهذه خاتون أربعة بنين ولاهم جنكزخان الأمور العظان في مملكته. الأول توشي ولي أمرالصيد والطرد وهو أحب الأمور إليهم. والثاني جغاتاي ولي أمر الحكومات والسياسة أي الناموس والقضاء. والثالث أوكتاي ولي تدبير الممالك لغزارة عقله وإصابة رأيه. والرابع تولي ولي أمر الجيوش وتجهيز الجنود والنظر في مصالح العساكر. وكان لجنكزخان أخ يقال له أوتكين فعين له ولكل واحدٍ من الأولاد بلاداً يقيمون بها. أما أوتكين فأقام بحدود الخطا. وتوشي أقام بحدود قباليغ وخوارزم لإلى أقصى سقسين وبلغار. وجغاتاي بحدود بلاد الإيغور بالقرب من المايغ إلى سمر قند وبخارا. وأقام أوكتاي وهو ولي العهد بحدود إيميل وقوتاق وجوره تولي أيضاً في تلك النواحي وهي وسط مملكتهم كالمركز بالنسبة إلى الدائرة

وفي سنة ستمائة ملك الفرنج مدينة القسطنطينية من الروم. أقام الفرنج بظاهرها محاصرين للروم من شعبان إلى جمادى الأولى وكان بالمدينة كثيرٌ من الفرنج مقيمين نحو ثلاثين ألفاُ ولعظم البلد لا يظهر أمرهم فتواضعوا هم والفرنج الذين بظاهر البلد ووثبوا فيه وألقوا النار فاحترق نحو ربع البلد. فاشتغل الروم بذلك ففتح الفرنج الأبواب ودخلوها ووضعوا السيف ثلاثة أيامٍ وقتلوا حتى الأساقفة والرهبان والقسيسين الذين خرجوا إليهم من كنيسة إييا سوفيا العظمى وبأيديهم الأناجيل والصلبان يتوسلون بها ليبقوا عليهم. فلم يلتفتوا إليهم وقتلوهم أجمعين ونهبوا الكنيسة. وكان الفرنج ثلاثة ملوك ذوقيس البنادقة وفي مراكبه ركبوا إلى القسطنطينية وهو شيخ أعمى إذا ركب يقاد فرسه. والثاني المركيس مقدم الافرنسيس. والثالث كندافلند وهو أكثرهم عدداً. فلما استولوا اقترعوا على الملك فخرجت القرعة على كندافلند فملكوه عليها وتكون لذوقس البنادقة الجزائر مثل اقريطش ورودس وغيرهما ويكون لمركيس البلاد التي هي شرقي الخليج مثل نيقية ولاذيق وفيلادلف ولم تدم له فإنها تغلب عليها بطريق من بطارقة الروم اسمه لشكري

وفيها في ذي القعدة توفي السلطان ركن الدين صاحب الروم وملك ابنه قلج أرسلان وكان صغيراً. وكان غياث الدين كيخسرو أخو ركن الدين يومئذٍ بقلعة من قلاع القسطنطينية ولما سمع بموت أخيه سار إلى قونية وقبض على الصبي وملكها وجمع الله له البلاد جميعها وعظم شأنه وقوي أمره وكان ذلك في رجب سنة إحدى وستمائة. وفيها أغارت الكرج على أذربيجان وأكثروا النهب والسبي ثم اغاروا على خلاط وارجيش فأوغلوا في البلاد حتى بلغوا ملازكرد ولم يخرج إليهم من المسلمين أحد يمنعهم فجاسوا خلال البلاد ينهبون ويأسرون. وفي سنة ثلاث وستمائة قبض عسكر خلاط على صاحبها محمد بن بكتمر وملكها بلبان مملوك شاه أرمن بن سكمان. وفي سنة أربع وستمائة ملك الملك الأوحد نجم الدين أيوب بن الملك العادل مدينة خلاط. ولما سار عنها إلى ملاذكرد ليقرر قواعدها وثب أهلها على من بها من العسكر فأخرجوه من عندهم وعصوا ونادوابشعار شاه أرمن وإن كان ميتاً يعنون بذلك رد الملك إلى أصحابه ومماليكه. فعاد إليهم الأوحد وقتل بها خلقاً كثيراً من أعيان أهلها فذل أهل خلاط وتفرقت كلمة الفتيان وكان الحكم إليهم وكفي الناس شرهم فإنهم كانوا يقيمون ملكاً ويقتلون آخر والسلطنة عندهم لا حكم لها وإنما الحكم لهم وإليهم. وفي سنة ستٍ وستمائة ملك الملك العادل أبو بكر بن أيوببلد الخابور ومدينة نصيبين وحصر سنجار ثم عاد عنها

وفيها استولى جنكزخان على بلاد قراخطا وكان أمير بلاد الايغور وهم طائفةٌ كثيرةٌ من الترك في طاعة ملك الخطا فلما صار الصيت لجنكزخان وشاع ذكره في البلاد أرسل إليه أمير الايغور وهو الذي يسمونه ايدي قوب أي صاحب الدولة يطلب الأمانلنفسه ورعيته والدخول في زمرته. فأكرم جنكزخان رسله وتقدم بوصوله إليه. فبادر ايدي قوب إلى الحضور في خدمته من غير توقف. فأقبل عليه جنكزخان وأحسن قبوله وأعاده إلى بلاده مكرماً

وفي سنة سبعٍ وستمائة أواخر رجب توفي نور الدين أرسلان شاه بن مسعود ابن مودود بن زنكي بن اقسنقر صاحب الموصل وكانت مدة ملكه ثماني عشرة سنة وكان شهماً شجاعاً ذا سياسةٍ للرعايا شديداً على أصحابه أعاد ناموس البيت الأتابكي وجاهه وحرمته بعد أن كانت قد ذهبت. ولما حضره الموت رتب في الملك ولده الملك القاهر عز الدين مسعود وأمر أن يتولى تدبير مملكته ويقوم بحفظها وينظر في مصالحها مملوكه بدر الدين لؤلؤ لما رأى من عقله وسداد رأيه وحسن سياسته وكمال السيادة فيه. وأعطى ولده الأصغر عماد الدين زنكي قلعة العقر الحميدية وقلعة شوش وسيره إلى العقر

في سنة تسعٍ وستمائة قصد ثلاثة نفر تجار من البخاريين ديار التاتار ومعهم البضائع من الثياب المذهبة والكرباس وغيرهما مما يليق بالمغول بما سمعوا أن للمتاع عندهم قيمة وافرة وأن الطرق قد أقام بها جنكزخان جماعة يسمونهم قراقجية أي مستحفظين يخفرون المترددين إليهم فقوي عزمهم على ذلك فساروا نحوهم. ولما وصلوا إلى نواحيهم وافاهم المستحفظون ووقفوا على ما معهم من السلع فرأوا قماش واحدٍ منهم اسمه أحمد لائقاً للخازن فسيروه مع صاحبيه إليه. فعرض أحمد متاعه على الحجاب وطلب في ثمن كل ثوبٍ كان مشتراه عليه عشرة دنانير إلى عشرين ديناراً ثلاثة بواليش. فغضب لذلك جنكزخان وقال : هذا الغافل كأنه يظن أننا ما رأينا ثياباً قط وأمر الخازن فأراه من الأقمشة التي هداها إليه ملوك الخطا أشياء نفيسة وتقدم أن يكتب ما معه وأنهبه لمن حضر من الحاشية واعتقل أحمد. وطلب صاحبيه فعرضا عليه متاعهما برمته وقالا : هذا كله إنما أتينا به لنقدمه خدمةً للخان لا لنبيعه عليه. فألحوا عليهما أن يثمناه فلم يفعلا. فأمر جنكزخان أن يعطيا لكل ثوبٍ مذهبٍ باليش من ذهب ولكل كرباسين باليش من فضةٍ وعوض لأحمد أيضاً مثل ما أعطاهما وتقدم إلى الأولاد والخواتين والأمراء أن ينفذوا معهم جماعةً من أصحابهم ومعهم بواليش الذهب والفضة ليجلبوا لهم من ظرائف البلاد ونفائسها ما يصلح لهم فامتثلوا ما أمرهم به فاجتمع معهم مائة وخمسون تاجراً من مسلمٍ ونصرانيٍ وتركيٍ وأرسل معهم رسولاً إلى السلطان محمد يقول له : إن التجار وصلوا إلينا وقد أعدناهم إلى مأمنهم سالمين غانمين وقد سيرنا معهم جماعةً من غلماننا ليحصلوا من ظرائف تلك الأطراف فينبغي أن يعودا إلينا آمنين ليتأكد الوفاق بين الجانبين وتنحسم مواد النفاق من ذات البين. فلما وصل التجار إلى مدينة أترار طمع أميرها غاير خان فيما معهم من الأموال فطالع السلطان محمد في أمرهم وحسن له إبادتهم واغتنام مالهم فأذن له في ذلك فقتلهم طراً إلا واحداً منهم فإنه هرب من السجن. ولما رأى ما جرى على أصحابه لحق بديار التاتار وأعلمهم بالمصيبة. فعظم ذلك جنكزخان وتأثر منه إلى الغاية وهجر النوم وصار يحدث نفسه ويفتكر فيما يفعله. وقيل أنه صعد إلى رأس تلٍ عالٍ وكشف رأسه وتضرع إلى الباري تعالى طالباً نصره على من باداه بالظلم وبقي هناك ثلاثة أيامٍ بلياليها صائماً. وفي الليلة الثالثة رأى في منامه راهباً عليه السواد وبيده عكازة وهو قائم على بابه يقول له : لا تخف افعل ما شئت فإنك مؤيد. فانتبه مذعوراً ذعراً مشوباً بالفرح وعاد إلى منزله وحكى حلمه لزوجته وهي ابنة أونك خان. فقالت له : هذا زي أسقفٍ كان يتردد إلى أبي ويدعو له ومجيئه إليك دليل انتقال السعادة إليك. فسأل جنكزخان من كان في خدمته من نصارى الايغور. هل ههنا أحدٌ من الأساقفة. فقيل له عن مار دنحا. فلما طلبه ودخل عليه بالبيرون الأسود قال : هذا زي من رأيت في منامي لكن شخصه ليس ذاك. فقال الأسقف : يكون الخان قد رأى بعض قديسينا. ومن ذلك الوقت صار يميل إلى النصارى ويحسن الظن بهم ويكرمهم. وفي سنة عشرٍ وستمائة قصد جنكزخان بلاد السلطان محمد ولما وصل إلى نواحي تركستان أتاه الأمير أرسلان خان من غياليغ والأمير ايدي قوب من بيشباليغ والأمير سفتاق من الماليغ وساروا في عساكرهم. ولما اجتمعت العساكر جميعها بقصبة مدينة أترار سير جنكزخان ابنه الكبير فب تومانين عسكر إلى جانب خجند وتوجه هو بنفسه إلى بخارا ورتب على محاصرة أترار ولديه جغاتاي وأوكتاي فدام القتال عليها مدة خمسة أشهرٍ لأن السلطان محمداً كان قد سير إليها غاير خان في خمسة آلاف فارسٍ وقراجا خاص حاجب في عشرة آلاف وكانوا كلهم بها. ولما ضاقت الحيلة بمن في المدينة وعجزوا عن المقاومة شاور قراجا لغاير خان في الصلح وتسليم البلد. فأبى غاير خان إلا المجاهدة حتى الموت لعلمه أن المغول لا يبقون عليه فلم ير في المصالحة مصلحةً. فتوقف قراجا إلى هجوم الليل وخرج في أكثر عسكره إلى خارج من باب دروازه الصوفي. فعوقوه إلى الصبح ثم حمل إلى ابني جنكزخان فاستنطقاه واستعلما منه كنه أحوال البلد وأمرا بقتله وقتل كل من معه قائلين : إذا كنت ما أبقيت على مخدومك وولي نعمتك فلا تبقيو لا علينا. وزحف العسكر إلى المدينة فدخلوها وأخرجو أهلها جميعهم إلى ظاهرها وأغاروا على ما فيها. وبقي غاير خان في عشرين ألفاً من عسكره متفرقين في دروب المدينة لم يتمكن منهم المغول وكانوا يخرجون خمسين خمسين يكاوحون ويطعنون في عسكر المغول ويقتلون ثم يقتلون. وكان هذا دأبهم شهراً إلى أن بقي غاير خان ومعه نفران يجالدون في سطح دار السلطنة وكان قد برز مرسوم الخان أن لا يقتل غاير خان في الحرب لكن يحمل إليه حياً. فلذلك كثر التعب معه وقتل صاحباه وبقي وحده يقاتل بالآجر الذي كان الجواري يناولنه من الجدار. فلما عجز عن المناولة أحاطبه المغول وقبضوه وحملوه إلى جنكزخان بعد عوده من بخارا إلى سمرقند وقتل هناك في كوك سراي. وفي سنة اثنتي عشرة في شعبان ملك السلطان محمد مدينة غزنة وكان استولى قبل ذلك على عامة خراسان وملك باميان. لا علينا. وزحف العسكر إلى المدينة فدخلوها وأخرجو أهلها جميعهم إلى ظاهرها وأغاروا على ما فيها. وبقي غاير خان في عشرين ألفاً من عسكره متفرقين في دروب المدينة لم يتمكن منهم المغول وكانوا يخرجون خمسين خمسين يكاوحون ويطعنون في عسكر المغول ويقتلون ثم يقتلون. وكان هذا دأبهم شهراً إلى أن بقي غاير خان ومعه نفران يجالدون في سطح دار السلطنة وكان قد برز مرسوم الخان أن لا يقتل غاير خان في الحرب لكن يحمل إليه حياً. فلذلك كثر التعب معه وقتل صاحباه وبقي وحده يقاتل بالآجر الذي كان الجواري يناولنه من الجدار. فلما عجز عن المناولة أحاطبه المغول وقبضوه وحملوه إلى جنكزخان بعد عوده من بخارا إلى سمرقند وقتل هناك في كوك سراي. وفي سنة اثنتي عشرة في شعبان ملك السلطان محمد مدينة غزنة وكان استولى قبل ذلك على عامة خراسان وملك باميان

وفي سنة ثلاث عشرة في العشرين من جمادى الآخرة توفي الملك الظاهر غازي ابن صلاح الدين يوسف بن أيوب وهو صاحب مدينة حلب وخلف أولاداً ذكوراً من جملتهم الملك العزيز محمد من ابنة عمه الملك العادل وكان عمر ولده هذا سنتين وشهورا ًو وصى به إلى مملوكه شهاب الدين طغرل الخادم فصار أتابكه وقام بتربيته أحسن قيام. وفي سنة خمس عشرة وستمائة توفي الملك القاهر عز الدين مسعود بن أرسلان شاه ابن مسعود بن مودود بن زنكي بن اقسنقر صاحب الموصل ليلة الاثنين لثلاث بقين من ربيع الأول وكانت ولايته سبع سنين وتسعة أشهرٍ وأوصى بالملك لولده الأكبر نور الدين أرسلان شاه وعمره حينئذٍ نحو عشر سنين وجعل الوصي عليه والمدبر لدولته بدر الدين لؤلؤاً. وكان عمه عماد الدين زنكي بن أرسلان شاه صاحب العقر يحدث نفسه بالملك. فرقع بدر الدين ذلك الخرق ورتق ذلك الفتق وأحسن السيرة مع الخاص والعام وخلع على كافة الناس وغير ثياب الحداد عنهم فلم يخص بذلك شريفاً دون مشرف ولا كبيراً دون صغير. وبعد أيامٍ وصل التقليد من الخليفة لنور الدين بالولاية ولبدر الدين بالنظر في أمور دولته والتشريفات لهما أيضاً. وكان مظفر الدين كوكبري بن زين الدين صاحب اربل قام في نصر عماد الدين زنكي فملكه قلعة العمادية وباقي قلاع الهكارية والزوزان. فراسله بدر الدين يذكره الأيمان والعهود ويطالبه بالوفاء بها ثم نزل عن هذا ورضي منه بالسكوت لا لهم ولا عليهم. فلم يفعل وأظهر معاضدة زنكي. فأرسل بدر الدين إلى الملك الأشرف موسى بن الملك العادل وهو صاحب ديار الجزيرة وخلاط وانتمى إليه وصار في طاعته وطلب منه المعاضدة. فأجابه بالقبول وبذل له المساعدة وأرسل إلى مظفر الدين يقبح هذه الحالة ويقول له أن يرجع إلى الحق وإلا قصده هو بنفسه وعسكره. فلم تحصل الإجابة منه إلى شيءٍ من ذلك إلى أن حضرت الرسل من الخليفة الناصر ومن الملك الأشرف في الصلح فأطاعوا واصطلحوا وتحالفوا بحضور الرسل. ولما تقرر الصلح توفي نور الدين أرسلان شاه بن الملك القاهر صاحب الموصل ورتب في الملك بعده أخوه ناصر الدين محمود وله من العمر نحو ثلاث سنين وحلف له الجند وركبه بدر الدين فطابت نفوس الناس إذ علموا أن لهم سلطاناً من البيت الأتابكي. وفيها توفي الملك العادل أبو بكر بن أيوب سابع جمادى الآخرة وكان عمره ثلاثاً وسبعين سنة وكانت مدة مملكته ثماني عشرة سنة. وخلف ولده الملك الكامل صاحب مصر. والملك المعظم صاحب دمشق. والملك الأشرف صاحب حران والرها وخلاط. والملك المظفر شهاب الدين غازي صاحب ميافارقين. والملك الحافظ صاحب قلعة جعبر. والملك العزيز صاحب بانياس. والملك الصالح اسمعيل صاحب بصرى. والملك الفائز يعقوب والملك الأمجد عباس والملك الأفضل والملك القاهر

ولما مات نور الدين الملك القاهر صاحب الموصل وملك أخوه ناصر الدين تجدد لعماد الدين ومظفر الدين الطمع لصغر سن ناصر الدين فجمعا الرجال وتجهزا للحركة. فلما بلغ ذلك بدر الدين لؤلؤاً أرسل إلة عز الدين ايبك مقدم عسكر الأشرف الذي بنصيبين يستدعيهم ليعتضد بهم فساروا إلى الموصل رابع رجب سنة خمس عشرة واستراحوا أياماً ثم عبروا دجلة ونزلوا شرقيها على فرسخٍ من الموصل. وجمع مظفر الدين عسكره وسار إليهم ومعه زنكي فعبر الزاب وسبق خبره. وعند انتصاف الليل سار ايبك ولم يصبر إلى الصبح فتقطعوا في الليل والظلمة والتقوا هم والخصم على ثلاثة فراسخ من الموصل. فأما عز الدين فحمل على ميسرة مظفر الدين فهزمها وبها زنكي. وميمنة مظفر الدين حملت على ميسرة بدر الدين وهزمتها. وبقي بدر الدين في النفر الذي معه في القلب وتقدم إليه مظفر الدين في من معه في القلب إذ لم يتفرقوا فلم يمكنه الوقوف فعاد إلى الموصل هارباً وعبر دجلة إلى القلعة وتبعه مظفر الدين وأقام وراء تل حصن نينوى ثلاثة أيامٍ ورحل ليلاً من غير أن يضربوا كوساً وبوقاً. ثم ملك عماد الدين قلعة الكواشي وملك بدر الدين تل أعفر وملك الأشرف سنجار وسار يريد الموصل ليجتاز منها إلى اربل. فقدم بين يديه عسكره ثم وصل هو في آخرهم يوم الثلاثاء تاسع عشر جمادى الأولى سنة ست عشرة وستمائة وكان يوم وصوله مشهوداً ترجل له بدر الدين وحمل الغاشية بين يديه. وأتاه رسل الخليفة ومظفر الدين في الصلح وبذل تسليم القلاع المأخوذة جميعها إلى بدر الدين ما عدا قلعة العمادية وطال الحديث في ذلك نحو شهرين. ثم رحل الأشرف يريد مظفر الدين فوصل قرية السلامية بالقرب من الزاب وكان مظفر الدين نازلاً عليه من جانب اربل فأعاد الرسل إلى الاشرف في طلب الصلح وكان عسكر الاشرف قد طال بيكاره والناس قد ضجروا فوقعت الإجابة إلى الصلح وعاد الاشرف إلى سنجار وكان رحيله عن الموصل ثاني شهر رمضان من سنة سبع عشرة وستمائة. وفي سنة ست عشرة وستمائة توفي السلطان عز الدين كيكاوس بن كيخسرو ابن قلج أرسلان صاحب بلاد الروم ولم يخلف ولداً يصلح للملك لصغر سنهم. وأخرج الجند أخاه علاء الدين كيقباذ من قلعة المنشار التي على الفرات بقرب ملطية وكان مسجوناً بها فملكوه وحلف الناس له فأحسن تدبيره لملكه وكان شديداً على أصحابه ذا عزم وحزم وهيبة عظيمة

وفي سنة سبع عشرة وستمائة في أوائل المحرم نزل جنكزخان في عساكره على مدينة بخارا وأحاط بها العساكر من جميع جوانبها. زوكان بها من عسكر السلطان محمد عشرون ألفاً مقدمهم كوك خان وسونج وكشلي خان. ولما تحققوا عجزهم عن مقاومة المغول خرجوا من الحصار بعد غروب الشمس فأدركهم المحافظون من عسكر المغول على نهر جيحون فأوقعوا فيهم وقتلوهم كافةً ولم يبقوا منهم أثراً. فلما فارق المقاتلون المدينة لم يبق لأهلها حيلة إلا التسليم والخروج وطلب الأمان فخرج الايمة والأعيان إلى خدمة جنكزخان يتضرعون إليه ويطلبون حقن دمائهم حسب. فتقدم باخراج كل من بالمدينة إلى ظاهرها فخرجوا ودخل هو وولده تولي إلى المدينة فوقف على باب مسجد الجامع وقال : هذا دار السلطان. فقالوا : لا بل خانة يزدان أي بيت الله. فنزل ودخل الجامع وصعد إلى المنبر وقال لاكابر بخارا : إن الصحراء خاليةٌ عن العلف فأنتم أشبعوا الخيل مما عندكم في الانبار. ففتحوها وصاروا ينقلون ما فيها من الغلات ورموا ما في الصناديق من الكتب وجعلوها اواري للخيل وأحضروا الطعام والشراب هناك وأكلوا وشربوا وطربوا. ثم خرج جنكزخان إلى منزله وجمع الايمة والمشايخ والسادات والعلماء وقال لهم : إن الله ملك الكل وضابط الكل أرسلني لأطهر الأرض من بغي الملوك الجائرة الفسقة الفجرة وذكر لهم ما فعله أمير اترار بإذن سلطانه بالتجار إلى غير ذلك ثم أمرهم أن يعتزلوا الأغنياء وأصحاب الثروة بمعزل عن الفقراء فعزلوهم وكانوا مائتي ألف وثمانين ألفاً. فقال لهم :إن الأموال التي فوق الأرض لا حاجة بنا إلى استعلامها منكم وإنما نريد أن تظهروا لنا الدفائن تحت الأرض. فقبلوا بالسمع والطاعة. ووكلوا مع كل قوم باسقاقاً يستخرج المال وأشار سراً إلى المستخرجين أن لا يكلفوهم ما لا يطيقونه ويرفقوا بهم وذلك لما رأى من حسن إجابتهم إلى ما أمروا به. ولأن جماعة من عسكر السلطان كانوا مختفين بالمدينة أمر فرموا في محالها النار فاحترقت المدينة بأسرها لأن جل عمائرها من خشب فبقيت عرصة بخارا قاعاً صفصفاً وتفرق أهلها منتزحين إلى خراسان

وفيها في ربيع الأول نزل جنكزخان على مدينة سمرقند وكان قد رتب السلطان محمد فيها مائة ألف وعشرة آلاف فارس يقومون بحراستها. فلما نازلها منع أصحابه عن المقاتلة وأنفذ سنتاي نوين ومعه ثلاثون ألف محارب في أثر السلطان محمد. وغلاق نوين وبسور نوين إلى جانب طالقان. وأحاط باقي العسكر بالمدينة وقت سحر فبرز إليهم مبارزو الخوارزمية ونازعوهم القتال وجرحوا جماعةً كثيرةً من التاتار وأسروا جماعة وأدخلوهم المدينة فلما كان من الغد ركب جنكزخان بنفسه ودار على العسكر وحثهم على القتال فاشتد القتال ذلك اليوم بينهم ودام النهار كله من أوله إلى أول الليل ووقف الأبطال من المغول على أبواب المدينة ولم يمكنوا أحداً من المجاهدين من الخروج فحصل عند الخوارزمية فتور كثير ووقع الخلف بين أكابر المدينة وتلونت الآراء فبعض مال إلى المصالحة والتسليم وبعض لم يأمن على نفسه وإن أومن خوفاً من غدر التاتار فقوي عزم القاضي وشيخ الاسلام على الخروج فخرجا إلى خدمة جنكزخان وطلبا الأمان لهما ولأهل المدينة فلم يجبهما إلا إلى أمان أنفسهما ومن يلوذ بهما. فدخلا إلى المدينة وفتحا أبوابها فدخل المغول واشتغلوا ذلك اليوم بتخريب مواضع من السور وهدم بعض الأبرجة ولم يتعرضوا إلآ احد إلى أن هجم الليل فدخلوا إلى المدينة وصاروا يخرجون من الرجال والنساء مائةً مائةً بالعدد إلى الصحراء ولم ينكفوا إلا عن القاضي وشيخ الاسلام وعمن التجأ إليهما فاحتمى بهما نيفٌ وخمسون ألفاً من الخلق. ولما أصبح الصباح شرع المغول في نهب المدينة وقتل كل من لحقوه مختبئاً في المغائر ومتوارياً بالستائر وقتلوا تلك الليلة نحو ثلاثين ألف تركي وقنقلي وقسموا بالنهار ثلاثين ألفاً على الأولاد والأمراء وأطلقوا الباقي ليرجعوا إلى المدينة ويجمعوا من بينهم مائتي ألف دينار ثمن أرواحهم وكان المحصل لهذا المال ثقة الملك والأمير عميد وهما من أكابر سمرقند والشحنة طايفور. ومن هناك توجه جنكزخان بعساكره إلى نواحي خوارزم وأنفذ الرسل إليهم يدعوهم إلى الايلية والدخول في طاعته وشغلهم أياماً بالوعد والوعيد والتأميل والتهديد إلى أن اجتمعت العساكر ورتب آلات الحرب من منجنيق وما يرمى بها. ولأن صقع خوارزم لم يكن فيه حجر كان المغول يقطعون من أشجار التوت قطعاً كالحجارة ويرمون بها وملأوا الخندق بالتراب والخشب والهشيم وأنشبوا الحرب والقتال على المدينة من جميع جوانبها حتى عجز من فيها عن المقاومة فملكوا سورها وأضرموا النار في محالها فأتت على أكثر دورها وما فيها فأيس المغول من الانتفاع بشيءٍ من غنائمها فأعرضوا عن الحريق وصاروا يملكون محلةً محلةً لأن أهلها كانوا يمتنعون فيها أشد امتناع. ولم يزالوا كذلك إلى أن ملك المغول كل المحال وأخرجوا الخلائق كافةً إلى الصحراء وفرزوا الصناع والمحترفين إلى الناحية وكانوا مائة ألف وأسروا البنين والبنات والنساء اللواتي ينتفع بهن وقسموا الباقي من الرجال والنساء والعجائز على العسكر ليقتلوهم فقتل كل واحدٍ منهم أربعاً وعشرين شخصاً. وفي أوائل سنة ثماني عشرة وستمائة عبر جنكزخان نهر جيحون وقصد مدينة بلخ فخرج إليه أعيانها وبذلوا له الطاعة وحملوا الهدايا وأنواعاً من الترغو أي المأكل والمشرب.فلم يقبل عليهم بسبب أن السلطان جلال الدين بن السلطان محمد كان في تلك النواحي يهيئ أسباب الحرب ويستعد للقتال فأمر بخروج أهل بلخ إلى الصحراء ليعدوهم كالعادة فلما خرجوا بأسرهم رمى فيهم السيف. ومن هناك توجه نحو الطالقان وقتل أكثر أهلها وأسر من صلح للأسر وأبقى البعض. وسار إلى الباميان فعصى أهلها وقاتلوا قتالاً شديداً واتفق أن أصيب بعض أولاد جغاتاي بسهم جرح فقضى نحبه وكان من أحب أحفاد جنكزخان إليه فعظمت المصيبة بذلك واضطرمت النيران في قلوب المغول وجدوا في القتال إلى أن فتحوها وقتلوا كل من فيها حتى الدواب والبقر والأجنة التي في بطون الحبالى أيضاً ولم يأسروا منها أحداً قط وتركوها أرضاً قفراً ولم يسكنها أحدٌ إلى اليوم وسموها ماوباليغ أي قرية بؤس

ولما فرغ جنكزخان من تخريب بلاد خراسان سمع أن السلطان جلال الدين قد استظهر بالعراق فسار نحوه ليلاً ونهاراً بحيث أن المغول لم يتمكنوا من طبخ لحمٍ إذا نزلوا. فحين وصلوا إلى غزنة أخبروا بأن جلال الدين من خمسة عشر يوماً رحل عنها وهو عازمٌ على أن يعبر نهر السند. فلم يستقر جنكزخان ورحل في الحال وحمل على نفسه بالسير حتى لحقه في أطراف السند فطاف به العسكر من قدامه ومن خلفه وداروا عليه دائرةً وراء دائرةٍ كالقوس الموتورة ونهر السند كالوتر وهو في وسط. وبالغ المغول في المكاوحة وتقدم جنكزخان أن يقبض حياً ووصل جغاتاي وأوكتاي أيضاً من جانب خوارزم. فلما رأى جلال الدين أنه يوم عملٍ شهمٍ وضرغم أبطال المغول وتطلب أطلابهم وحمل عليهم حملاتٍ وشق صفوفهم مرةً بعد مرةٍ وطال الأمر بمثل ذلك لامتناع المغول عن رميه بالنشاب ليحضروه غير مؤوف بين يدي جنكزخان امتثالاً لمرسومه فكانوا يتقدمون إليه قليلاً قليلاً. فلما عاين تضييق الحلقة عليه نزل فودع أولاده بل أكباده من نسائه وخواصه باكياً كئيباً ثم رمى عنه الجوشن وركب جنيبه وهو كالأسد الغيور وهم بالعبور واقحم فرسه النهر فانقحم وعام وخلص إلى الساحل وجنكزخان وأصحابه ينظرون إليه ويتأملونه حيارى. ولما شاهد ذلك جنكزخان وضع يده على فمه متعجباً والتفت إلى ولديه وقال لهما : من أبٍ مثل هذا الابن ينبغي أن يولد. إذا نجا من هذه الوقعة فوقائع كثيرة تجري على يديه. ومن خطبه لا يغفل من يعقل. وأراد جماعة من البهادورية أن يتبعوه في الماء فمنعهم جنكزخان قائلاً : إنكم لستم من رجاله لأنه كان يرامي المغول بالسهام وهو في وسط الشط. فلما فاتهم أخذوا أمر الخان بإحضار حرمه وأولاده وتقدم بقتل جميع الذكور حتى الرضع. ولأن جلال الدين عندما أراد الخوض في النهر ألقى جميع ما كان صحبته من آنية الذهب والفضة والنقرة فيه أمر الغواصين فأخرجوا منها ما أمكن إخراجه. وكان هذا الأمر الذي هو من عجائب الأنام ودواهي الأيام في رجب فقيل في المثل : عش رجباً تر عجباً

وفيها أعني سنة ثماني عشرة وستمائة كان اجتماع الملك المعظم والملك الأشرف مع نجدة صاحب ماردين وعسكر حلب والملك الناصر صاحب حماة والملك المجاهد صاحب حمص واتصال الجميع بالملك الكامل على عزم قصد الفرنج ورد دمياط منهم. فأحاطوا بهم وضيقوا السبيل عليهم فأجابوا إلى الصلح على تسليم دمياط وإطلاق ما بأيديهم من أسراء المسلمين وإطلاق ما بأيدي المسلمين من أسراهم وقرر الصلح عاماً مع الدكادنائب البابا وملك عكا وملوك فرنجة ومقدمي الداوية والاسبتارية وتسلم الكامل دمياط يوم الأربعاء تاسع عشر رجب. وكانت مدة مقام الفرنج بها سنة كاملة وأحد عشر شهراً. وفي سنة إحدى وعشرين وستمائة توفي الملك الأفضل علي بن صلاح الدين وقد نزل عن ملك مصر والشام وقنع بسميساط كرهاً. وكان عنده علمٌ وفطنةٌ لكنه كان ضعيف الرأي قليل العزم كثير الغفلة عما يجب للدول وتدبير الممالك. ولما أخذت منه البلاد كتب إلى الخليفة الناصر كتاباً ضمنه شكاية عمه العادل وأخيه العزيز حيث أخذا منه البلاد ونكثا عهد أبيه له بها. وكتب في أول الكتاب بيتين من الشعر عملهما وأحسن فيهما وهما

مولاي إن أبا بكرٍ وصاحبه … عثمان قد أخذا بالسيف حق علي
فانظر إلى حرف هذا الاسم كيف لقي … من الأواخر ما لاقى من الأولِ

يريد بأبي بكر عمه وبعثمان أخاه وبعلي نفسه. فأجابه الناصر عن كتابه بكتابٍ كتب فيه

وافى كتابك يا ابن يوسف معلناً … بالصدق يخبر أن أصلك طاهرُ
غصبوا علياً حقه إن لم يكن … بعد النبي له بيثرب ناصرُ
فاصبر فإن غداً عليه حسابهم … وأبشر فناصرك الإمام الناصرُ

وكان الملك الأفضل قد شغله أبوه في صباه بشيءٍ من العلم فحصل منه طرفاً من العربية والشعر وكان ينظمه ويعتني به بالنسبة إلى حاله

و في سنة اثنتين وعشرين وستمائة توفي الخليفة الناصر لدين الله أبو العباس أحمد في ليلة عيد الفطر وكان عمره سبعين سنة ومدة خلافته ستاً وأربعين سنة وأحد عشر شهراً

وكان في الأيام الامامية الناصرية الحكيم عبد السلام بن جنكي دوست الجبلي البغدادي قد قرأ علوم الأوائل وأجادها واشتهر بهذا الشأن شهرةً تامة وحصل له بتقدمه حسدٌ من أرباب الشر فثلبه أحدهم بأنه معطل فأوقعت الحفظة عليه وعلى كتبه فوجد فيها الكثير من علوم الفلاسفة وبرزت الأوامر الناصرية باخراجها إلى موضعٍ ببغداد يعرف بالرحبة وأن يحرق الجم منها بحضور الجمع ففعل ذلك وأحضر لها عبيد الله التيمي المعروف بابن المارستانية وجعل له منبر وصعد عليه وخطب خطبةً لعن بها الفلاسفة ومن يقول بقولهم وذكر الركن هذا بشر وكان يخرج الكتب التي له كتاباً كتاباً يتكلم عليه ويبالغ في ذمه وذم مصنفه ثم يلقيه من يده لمن يلقيه في النار. قال القاضي الأكرم الوزير جمال الدين بن القفطي رحمه الله : أخبرني الحكيم يوسف السبتي الاسرائيلي قال : كنت بغداد يومئذٍ تاجراً وحضرت المحفل وسمعت كلام ابن المارستانية وشاهدت في يده كتاب الهيئة لابن الهيثم وهو يقول : وهذه الداهية الدهياء والنازلة الصماء والمصيبة العمياء. وبعد إتمام كلامه خرقها وألقاها في النار. فاستدللت على جهله وتعصبه إذ لم يكن في الهيئة كفرٌ وإنما هي طريقٌ إلى الإيمان ومعرفة قدر الله جل وعز فيما أحكمه ودبره. واستمر الركن عبد السلام في السجن معاقبةً على ذلك إلى أن أفرج عنه سنة تسعٍ وثمانين وخمسمائة.

وفي هذه السنة توفي يحيى بن سعيد بن ماري الطبيب النصراني صاحب المقامات الستين صنفها وأحسن فيها وكان فاضلاً في علوم الأوائل وعلم العربية والشعر يرتزق بالطب. ومن شعره في الشيب

نفرت هند من طلائع شيبي … واعترتها سآمةٌ من وجومي
هكذا عادة الشياطين ينفر … ن إذا ما بدت نجوم الرجومِ

ومن أطباء الدار الامامية الناصرية صاعد بن هبة الله بن المؤمل أبو الحسن النصراني الحظيري المتطبب وأخوه أبو الخير الاركيذياقون وهما أخوا الجاثليق المعروف بابن المسيحي. أما صاعد فخدم الخليفة الناصر وتقرب قرباً كثيراً وكانت له المعرفة التامة بالطب والمنطق وصنف كتاباً صغير الحجم سماه الصفوة جمع فيه أجزاء الطب علميها وعمليها وألحق في آخر الفن الأول من الجزء الثاني ثلاثة فصول في الختانة لكونها منوطة بالأطباء ببغداد وإن كان لا يسمع لأحدٍ من المتقدمين ولا المتأخرين فيها قولاً بل فيما يطول القلفة. وكان ينسخ بخطه كتب الحكمة. ومات في آخر سنة إحدى وتسعين وخمسمائة. وأما الاركيذياقون وكان أيضاً فاضلاً صنف كتاباً مختصراً لخص فيه مباحث كتاب الكليات من القانون سماه الاقتضاب ثم اختصره وسمى المختصر انتخاب الاقتضاب. وحكى لي بعض الأطباء ببغداد أن أباه حمله وهو مترعرع إلى ابن التلميذ ليشغله فقال : هذا ابنك صغيرٌ جداً. فقال : غرضي التبرك منك. فأقرأه المسألة الأولى من مسائل حنين

وفي سنة أربع وتسعين وخمسمائة توفي محمد بن عبد السلام المقدسي ثم المارديني كان أبوه قاضي ماردين وجده قاضي دنيسر قرأ الطب على ابن التلميذ فبلغ منه الغاية حتى أن الملوك كانت تخطبه من النواحي والأقطار وكان على علو السن يكرر على كتب كبار. وقرأ عليه الشهاب السهروردي شيئاً من الحكمة. ولم يصنف كتاباً مع غزارة علمه وتمكنه وحسن تصرفه فيه إلا أنه شرح أبيات ابن سينا التي أولها :هبطت إليك. وكان أبو الخير بن المسيحي يفخم أمره ويعظم شأنه

وفي سنة خمسٍ وستمائة مات موسى بن ميمون اليهودي الأندلسي وكان قد قرأ علم الأوائل بالأندلس وأحكم الرياضيات وقرأ الطب هناك فأجاده علماً ولم يكن له جسارةع لى العمل. وأكره على الإسلام فأظهره وأسر اليهودية. ولما التزم بجزيات الإسلام من القراءة والصلاة فعل ذلك إلى أن أمكنته الفرصة في الرحلة بعد ضم أطرافه فخرج عن الأندلس إلى مصر ومعه أهله ونزل مدينة الفسطاط بين يهودها فأظهر دينه وارتزق بالتجارة في الجوهر وما يجري مجراه. ولما ملك العزيز مصر وانقضت الدولة العلوية اشتمل عليه القاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي البيساني ونظر إليه وقرر له رزقاً وكان يشارك الأطباء ولا ينفرد برأيه لقلة مشاركته ولم يكن وقفاً في المعالجة والتدبير. وكان عالماً بشريعة اليهود وصنف كتاباً في مذهب اليهود سماه بالدلالة وبعضهم يستجيده وبعضهم يذمه ويسميه الضلالة. وغلب عليه النحلة الفلسفية وصنف رسالة في المعاد الجسماني وأنكر عليه مقدمو اليهود فأخفاها إلا عمن يرى رأيه.و رأيت جماعة من يهود بلاد الفرنج الغتم بإنطاكية وطرابلس يلعنونه ويسمونه كافراً. وله تصنيفات حسنة في الرياضيات ومقاربة في الطب. وابتلي في آخر زمانه برجلٍ من الأندلس فقيه يعرف بأبي العرب وصل إلى مصر وحاققه على إسلامه ورام أذاه فمنعه عنه القاضي الفاضل وقال له : رجلٌ يكره لا يصح إسلامه شرعاً. ولما قرب وفاته تقدم إلى مخلفيه أن يحملوه إذا انقطعت رائحته إلى بحيرة طبرية فيدفنوه هناك لما فيها من قبور صالحيهم ففعل به ذلك

وفي سنة ست وستمائة في ذي الحجة توفي بهراة الإمام الفخر الرازي محمد بن عمر المعروف بابن الخطيب بالري. وكان من أفاضل أهل زمانه بز القدماء في الفقه وعلم الأصول والكلام والحكمة ورد على أبي علي بن سينا واستدرك عليه. وكان يركب وحوله السيوف المجذبة وله المماليك الكثيرة والمرتبة العالية والمنزلة الرفيعة عتد السلاطين الخوارزمشاهية. وعن له أن تهوس بعمل الكيمياء وضيع في ذلك مالاً كثيراً ولم يحصل على طائل.و سارت مصنفاته في الأقطار واشتغل بها الفقهاء. ورحل إلى ما وراء النهر لقصد بني مارة ببخارا ولم يلق منهم خيراً وكان فقيراً يومئذٍ لا جدة له فخرج من بخارا وقصد خراسان واتفق اجتماعه بخوارزمشاه محمد بن تكش فقربه وأدناه ورفع محله وأسنى رزقه.و استوطن مدينة هراة وتملك بها ملكاً وأولد أولاداً وأقام بها حتى مات ودفن في داره.و كان يخشى أن العوام يمثلون بجثته لما كان يظن به من الانحلال. وفي مسيره إلى ما وراء النهر يقصد بخارا في حدود سنة ثمانين وخمسمائة اجتاز بعبد الرحمن بن عبد الكريم السرخسي الطبيب ونزل عليه فأكرمه وقام بحقه مدة مقامه بسرخس فأراد أن يفيده مما لديه فشرع له في الكلام على كليات القانون وشرح المستغلق من ألفاظ هذا الكتاب ورسمه باسمه وذكره في مقدمته ووصفه وأثنى عليه. وفي سنة ثماني وستمائة توفي المسيحي ابن أبي البقاء النيلي نزيل بغداد وكنيته أبو الخير ويعرف بابن العطار وكان خبيراً بالعلاج قيماً به له ذكر وقرب من دار الخليفة يطب النساء والحواظي عاش عمراً طويلاً وحصل مالاً جزيلاً وخلف ولداً طبيباً لم يكن رشيدأ يكنى أبا علي. ولما مات أبوه اتفق أن كان على بعض مسراته إذ كبس في ليلة الجمعة حادي عشر ربيع الأول من سنة سبع عشرة وستمائة وعنده امرأة مسلمة تعرف بست شرف. فلما قبض عليه أقر على جماعة من المسلمات كن يأتينه لأجل دنياه من جملتهن زوجة ابن البخاري صاحب المخزن اسمها اشتياق. فخرج الأمر بسجن المرأتين بسجن الطرارات وفدى أبو علي نفسه بستة آلاف دينار

وفي سنة تسع عشرة وستمائة في المحرم توفي علي بن أحمد أبو الحسن الطبيب المعروف بابن هبل وكان من أهل بغداد عالماً بالطب والأدب ولد ببغداد ونشأ بها ثم جاز إلى الموصل وخرج إلى أذربيجان وأقام بخلاط عند صاحبها شاه أرمن يطبه وقرأ الناس عليه. وفارق تلك الديار لسببٍ وهو أن بعض الطشتدراية قال له يوماً وقد نظر قارورة الملك في بعض أمراضه : يا حكيم لم لا تذوقها. فسكت عنه. فلما انفصل المجلس قال له في خلوةٍ : قولك هذا اليوم عن أصل أم من قول غيرك أو هو شيءٌخطر لك. فقال : إنما خطر لي لأني سمعت أن شرط اختبار القارورة ذوقها. فقال : الأمر كذلك ولكن لا في كل الأمراض وقد أسأت إلي بهذا القول لأن الملك إذا سمع هذا ظن أنني قد أخللت بشرطٍ واجبٍ من شروط خدمته. ثم أنه عمل على الخروج لأجل هذه الحركة والخوف من عاقبتها بعد أن رشا الطشت دار حتى لا يعود إلى مثلها. وخرج وعاد إلى الموصل وقد تمول فأقام بها إلى حين وفاته. وعمر حتى عجز عن الحركة وعدم بصره فلزم منزله قبل وفاته بسنتين ومات وعمره خمس وتسعون سنة. وكان الناس يترددون ويقرأون عليه. وصنف كتاباً حسناً في الطب سماه المختار يجيء في أربع مجلدات

وفي سنة عشرين وستمائة ثامن وعشرين جمادى الأولى ليلة الخميس قتل أبو الكرم صاعد بن توما النصراني الطبيب البغدادي ويلقب بأمين الدولة. كان فاضلاً حسن العلاج كثير الإصابة وكان من ذوي المروآت تقدم في أيام الإمام الناصر إلى أن صار في منزلة الوزراء واستوثقه على حفظ أمواله وخواصه وكان يودعها عنده ويرسله في أمورٍ خفيةٍ إلى الوزير ويظهر له كل وقت. وكان حسن الوساطة جميل المحضرتقضى على يده حاجات الناس. وكان الإمام الناصر في آخر أيامه قد ضعف بصره وأدركه سهو في أكثر أوقاته. ولما عجز عن النظر في القصص استحضر امرأةً من النساء البغداديات تعرف بست نسيم وقربها وكانت تكتب خطاً قريباً من خطه وجعلها بين يديه تكتب الأجوبة وشاركها في ذلك خادمٌ اسمه تاج الدين رشيق فصارت المرأة تكتب في الأجوبة ما ترد فمرةً تصيب ومراراً تخطئ. واتفق أن كتب الوزير القمي المدعو بالمؤيد مطالعةً وعاد جوابها وفيه إخلالٌ بين فتوقف الوزير وأنكر ثم استدعى الحكيم صاعد بن توما وسأله عن ذلك سراً. فعرفه ما الخليفة عليه من عدم البصر والسهو الطارئ في أكثر الأوقات وما يعتمده المرأة والخادم من الأجوبة. فتوقف الوزير عن العمل بأكثر الأمور الواردة عليه. وتحقق الخادم والمرأة ذلك وحدسا أن الحكيم هو الذي دله على ذلك. فقرر رشيق مع رجلين من الجند أن يغتالا الحكيم ويقتلاه وهما رجلان يعرفات بولدي قمر الدين من الأجناد الواسطية. فرصدا الحكيم في بعض الليالي إلى أن خرج من دار الوزير عائداً إلى دار الخليفة فتبعاه إلى باب الغلة المظلمة ووثبا عليه بسكينيهما وجرحاه وانهزما. فبصر بهما وصاح : خذوهما. فعادا إليه وقتلاه وجرحا النفاط الذي بين يديه. وحمل الحكيم ابن توما إلى منزله ودفن بداره في ليلته. وبعد تسعة أشهر نقل إلى تربة آبائه في لبيعة بباب المحول. وبحث الخليفة والوزير عن القاتلين فعرفا وأمر بالقبض عليهما وفي بكرة تلك الليلة أخرجا إلى موضع القتل وشق بطناهما وصلبا على باب المذبح المحاذي لباب الغلة التي جرح في بابها

“ ظاهر بن الناصر ”
ولما توفي الناصر لدين الله بويع ابنه الإمام الظاهر بأمر الله عدة الدين أبو نصر محمد في ثاني شوال من سنة اثنتين وعشرين وستمائة. وكان والده قد بايع له بولاية العهد وكتب بها إلى الآفاق وخطب له بها مع أبيه على سائر المنابر. ومضت على ذلك مدة ثم نفر عنه بعد ذلك وخافه على نفسه فإنه كان شديداً قوياً أيداً عالي الهمة فأسقط من ولاية العهد في الخطبة واعتقله وضيق عليه ومال إلى أخيه الصغير الأمير علي إلا أنه لم يعهد إليه. فاتفقت وفاة الأمير علي الصغير في حياة والده وخلف أولاداً أطفالاً فبعث بهم إلى ششتر. فعلم الإمام الناصر أنه لم يبق له ولد تصير الخلافة إليه بعده غيره فعهد إليه وبايع له الناس وهو في الحبس مضبوط عليه وكانت عامة أهل بغداد يميلون إليه. فلما توفي الناصر أخرجه أرباب الدولة وبايعوه بالخلافة. وقال لما بويع : كيف يليق أن يفتح الإنسان دكاناً بعد العصر. قد نيفت على الخمسين سنة وأتقلد الخلافة. ثم أظهر من العدل والأمن ما لم يمكن وصفه وأزال الظلم ورد على الناس أموالاً جزيلةً وأملاكاً جليلةً كانت قد أخذت منهم وأزال مكوساً كثيرةً وكانت قد . وارتفع عن الناس ما كانوا ألفوه من الخوف في زمان والده فأظهروا نعمتهم وامتنع المفسدون من السعايات. وعقد لبغداد جسراً ثانياً عظيماً جديداًو أنفق عليه مالاً كثيراً فصار في بغداد على دجلتها جسران. وما زالت دولته كذلك عادلةً آمنةً منذ ولي إلى أن توفي في رابع عشر شهر رجب سنة ثلاث وعشرين وستمائة بعد تسعة أشهرٍ من ولايته

***

وفيها مات يوسف بن يحيى بن اسحق السبتي المغربي. هذا كان طبيباً من أهل قادس وقرأ الحكمة بجلادةٍ فشدا فيها وعانى شيئاً من علوم الرياضة فأجادها وكانت حاضرة على ذهنه عند المحاضرة. ولما ألزم اليهود في تلك البلاد بالإسلام أو الجلاء كتم دينه وارتحل إلى مصر بماله واجتمع بموسى بن ميمون القرطبي رئيس اليهود بمصر وقرأ عليه شيئاً وسأله إصلاح هيئة ابن أفلح الأندلسي فإنها صحبته من سبتة فاجتمع هو وموسى على إصلاحها وتحررها.و خرج من مصر إلى الشام ونزل حلب وأقام بها واشترى ملكاً قريباً وتزوج وخدم أطباء الخاص في الدولة الظاهرية بحلب وكان ذكياً حاد الخاطر. قال القاضي الأكرم رحمه الله : كان بيني وبين يوسف هذا مودة طالت مدتها فقلت له يوماً : إن كان للنفس بقاءٌ وتعقل به حال الموجودات من خارج بعد الموت فعاهدني على أن تأتيني إن مت قبلي وآتيك إن مت قبلك. فقال : نعم. ووصيته أن لا يغفل. ومات وأقام سنتين ثم رأيته في النوم وهو قاعد في عرصة مسجد من خارجه في حضيرةٍ له وعليه ثيابٌ جدد بيضٌ من النصفي فقلت له : يا حكيم ألست قررت معك أن تأتيني لتخبرني بما ألفيت. فضحك وأدار وجهه فأمسكته بيدي وقلت : لا بد أن تقول لي كيف الحال بعد الموت. فقال لي : الكلي لحق بالكل وبقي الجزئي في الجزء. ففهمت عنه في حاله كأنه أشار إلى النفس الكلية عادت إلى عالم الكل والجسد الجزئي بقي في الجزء وهو المركب الأرضي. فتعجبت بعد الاستيقاظ من لطيف إشارته. نسأل الله العفو عند العود إليه بعد الموت

***

” المستنصر بن الظاهر ”
ولماتوفي الإمام الظاهر بأمر الله بويع ابنه جعفر المنصور ولقب المستنصر بالله بويع يوم مات والده. ولما بويع البيعة العامة ركب للناس ركوباً ظاهراً واستمر على هذه الحالة مدةً طويلةً لا يختفي في ركوبه من الناس وأظهر من العدل وحسن السيرة أضعاف ما أظهره والده وأفاض من الصدقات ما أربى على من تقدمه وتقدم بإنشاء مدرسته المعروفة بالمستنصرية التي لم يعمر في الدنيا مثلها فعمرت على أعظم وصف في صورتها وآلاتها واتساعها وزخرفها وكثرة فقهائها ووقوفها. ووقفها على المذاهب الأربعة ورتب فيها أربعة من المدرسين في كل مذهبٍ مدرساً وثلاثمائة فقيه. لكل مذهب خمسة وسبعون فقيهاً. ورتب لهم من المشاهرات والخبز والطعام في كل يوم ما يكفي كل فقيه ويفضل عنه وبنى لهم داخل المدرسة حماماً خاصاً للفقهاء وطبيباً خاصاً يتردد إليهم في بكرة كل يوم يفتقدهم ومخزناً فيه كل ما يحتاج إليه من أنواع ما يطبخ من الأطعمة ومخزناً آخر فيه أنواع الأشربة والأدوية

وفي سنة أربع وعشرين وستمائة توفي الملك المعظم عيسى بن الملك العادل صاحب دمشق في سلخ ذي تاقعدة وكان عمره ثمانياً وأربعين سنة. وكانت همته عالية وصار ملكه بدمشق والقدس والسواحل إلى ولده الملك الناصر صلاح الدين داود فاستقر ملكه بها وحمل عمه الملك العزيز وعمه الملك الصالح الغاشية بين يديه

وفيها قفل جنكزخان من الممالك الغربية إلى منازله القديمة الشرقية ثم رحل من هناك إلى بلاد تنكوت وهنالك عرض له مرض من عفونة ذلك الهواء الوخيم ولما قوي من مرضه استدعى أولاده جغاتاي وأوكتاي والغ نوين وكلكان وجورختاي وأوردجار وقال لهم : إنني قد أيقنت مفارقة الدنيا لعجز قوتي عن حمل ما بي من الآلام ولا بد من شخصٍ يقوم بحفظ المملكة على حالها والذب عنها. وقد أعلمتكم غير مرة أن ابني أوكتاي يصلح لهذا الشأن لما رأيت من مزية رأيه المتين وعقله المبين والآن فقد جعلته ولي عهدي وقلدته ما بيدي من جميع الممالك فما قولكم في هذا الذي استصوبته. فجثا الأولاد والنوينية المذكورون على ركبهم وقالوا : جنكزخان هو المالك للرقاب ونحن العبيد السامعون المطيعون في جميع ما يتقدم به على وفق مراده ومرسومه. وعند فراغه من الوصية اشتد وجعه وتوفي لأربعٍ مضين من شهر رمضان سنة أربع وعشرين وستمائة وكان مدة ملكه نحو خمس وعشرين سنة. فأرسل الولدان والأمراء الرسل إلى باقي الأولاد والأمراء ليجتمعوا في القوريلتاي أي المجمع الكبير

وفي سنة خمس وعشرين وستمائة ترددت الرسل بين الفرنج والملك الكامل في طلب الصلح فاتفق على تسليم البيت المقدس إلى الفرنج فتسلموه ومواضع كثيرة أخر من بلاد الساحل. وإنما أجابهم الكامل لما رأى من كثرة عساكرهم وإمداد البحر لهم بالرجال والأموال فخاف على بلاده أن تؤخذ منه عنوةً فأرضاهم بذلك

وفي سنة ست وعشرين وستمائة تم اجتماع الأولاد وأمراء المغول فوصل من طرف القفجاق الأولاد توشي هردو باتو سيبان تنكون بركه بركجار بغاتيمور أقناس جغاتاي. ومن طرف أتميل أوكتاي. ومن طرف المشرق عمهم أوتكين وبلكتاي نوين والجتاي نوين والغ نوين. وأما الأولاد الصغار فكانوا في أردو جنكزخان. وفي زمن الربيع حضروا كلهم في عساكرهم وثلاثة أيام متوالية فرحوا جميعاً ثم شرعوا فيما تقدم به جنكزخان من الوصية والعهد بالمملكة إلى أوكتاي فامتثلوا كلهم الأوامر الجنكزخانية واعترفوا بأهليته لذلك. فاستقالهم أوكتاي الولاية قائلاً : إن أمر الوالد وإن كان لا اعتراض عليه لكن ههنا أخٌ أكبر مني وأعمامٌ هم أولى مني بها. فلم يقيلوه إياها وأصروا على أنه لا بد من امتثال مرسوم الوالد وداموا على إصرارهم أربعين يوماً وما زالوا يتضرعون إليه ويلحون عليه بالمسألة حتى أجاب إلى ذلك فكشفوا رؤوسهم ورموا مناطقهم على أكتافهم وأخذ جغاتاي أخوه الكبير بيده اليمنى وأوتكين عمه بيده اليسرى فأجلساه على سرير المملكة ولقباه قاان ولزم له الغ نوين كأس شراب فسقاه وجثا كل من كان حاضراً داخل الخزكاه وخارجها على ركبتيه تسع مرات ودعوا له ثم برزوا كلهم إلى خارج وجثوا ثلاث مرات حيال الشمس. وإنما اختص ألغ نوين بلزوم الكاس لأنه أصغر أولاد جنكزخان وفي عادة المغول أن الابن الصغير لا يقتسم ولا يخرج عن بيت أبيه وإذا مات الأب فهو يتولى تدبير المنزل. ففي تلك الأربعين يوماً كان يقول أوكتاي : إن الغ نوين هو صاحب البيت وأكثر مواظبةً لخدمته وأبلغ مني تعلماً لسياسته فالمصلحة تفويض هذا الأمر إليه. فلذلك سبق الجميع بتصريح الطاعة. وأما الأمراء فانتخبوا من بناتهم الأبكار الصالحة لخدمة قاان أربعين بنتاً وحملوهن مزيناتٍ بالحلي الفاخرة والخيول الرائعة إلى خدمته. ولما فرغ من هذه الأمور صرف همته إلى ضبط الممالك وجهز جورماغون في ثلاثين ألف فارسٍ وسيرهم إلى ناحية خراسان وأنفذ سنتاي بهادر في مثل ذلك العسكر إلى جانب قفجاق وسقسين وبلغار وجماعة أخرى إلى التبت وقصد هو بنفسه بلاد الخطا

وفي سنة سبعٍ وعشرين وستمائة في أوائلها نزل السلطان جلال الدين خوارزمشاه على خلاط وحاصرها أشد حصار وشتى عليها ونصب عليها عشرين منجنيقاً على ناحية البحر وفيها أخو الملك الأشرف تقي الدين عباس ومجير الدين يعقوب والأمير حسام الدين القيمري وعز الدين ايبك مملوك الأشرف. فدام الحصار على أهل خلاط واشتد حتى أكلوا لحوم الكلاب وبلغ الخبز كل رطل بالشامي بدينار مصري فتسلم خوارزمشاه المدينة والقلعة وانهزم حسام الدين القيمري وأفلت على فرسٍ وحده ومضى إلى قلعة قيمر ثم تجهز إلى خدمة الملك الأشرف إلى الرقة وأقام عز الدين ايبك وتقي الدين ومجير الدين مع خوارزمشاه يركبون معه ويلعبون بالكرة. ولما طارت الأخبار إلى الملك الأشرف بذلك انزعج وأسار جريدة إلى أبلستين. فتلقاه صاحب الروم علاء الدين كيقباذ من فراسخ واجتمعا ولحقت الملك الأشرف عساكره وخرج علاء الدين بعساكره إلى اق شهر هو والملك الأشرف وخرج الخوارزمي من خلاط للقائهم وكان في أربعين ألفاً والتقوا اقتتلوا قتالاً شديداً في يوم الجمعة وكان الغلبة فيه للملك الأشرف والرومي وباتوا ليلة السبت على تعبيتهم إلى الفجر من يوم السبت فالتقوا واقتتلوا فانكسر الخوارزمي كسرةً عظيمةً وانهزم وقتل من أصحابه خلقٌ لا يحصي عددهم إلا الله وانهزم مثلهم وأسر مثلهم وبلغت هزيمتهم إلى جبال طرابيزون فوقع منهم في شقيف هناك ألف وخمسمائة رجل. وساق خوارزمشاه إلى صوب خرتبرت فوصلها في يوم وليلة ونجا بنفسه ومضى إلى بلاد العجم فأقام في خوى. وكان قد بعث تقي الدين عباس أخا الأشرف أسيراً مقيداً إلى بغداد هدية فأعاده الخليفة المستنصر مكرماً إلى الأشرف فوصل الأشرف إلى خلاط وأصلح أحوالها ورممها ثم بعث رسولاً إلى خوارزمشاه يسأله الإحسان إلى من معه من الأسارى فأجابه بأن عندي منكم ملوكاً وعندكم منا مماليك فإن أجبتم إلى الصلح فأنا موافق عليه. فأجابه الملك الأشرف : إنك فعلت ببلادنا ما فعلته وما أبقيت من سوء المعاملة والمقابحة شيئاً إلا وقد عملته خربت البلاد وسفكت الدماء فإن أردت الصلح فانزل عن البلاد التي تغلب عليها ولم تكن لأبيك لنعمر منها ما خربت. وأما قولك بأن عندك منا ملوكاً فالذي عندك أخي مجير الدين يعقوب نحن نقدر أنه مات فأخوتي عوضه ونحن بحمد الله في جماعة أهل بيت وأولاد وأقارب نزيد على ألفي فارس وأنت أبتر ما لك أحد وخلفك أعداءٌ كثيرة. فمضى الرسول بهذا الجواب فلم يجبه الخوارزمي إلى ما طلبه ولا استقر بينهما أمر. وكان عز الدين ايبك قد سجنه خوارزمشاه في قلعة اختمار فأحضر وقتل. ثم وصله خبر عبور جورماغون نوين نهر أموية في طلبه فتوجه إلى تبريز وأرسل رسولاً إلى الخليفة وآخر إلى الملك الأشرف وصحبته زوجة الأمير حسام الدين القيمري التي كان قد أسرها من خلاط ورسولاً إلى السلطان علاء الدين صاحب الروم يستجيشهم ويعلمهم كثرة عساكر التاتار وحدة شوكتهم وشدة نكايتهم وأنه إذا ارتفع هو من البين يعجزون عن مقاومتهم وانه كسد الاسكندر يمنعهم عنهم فالرأي أن يساعده كلٌ منهم بفوجٍ من عسكره ليرتبط بذلك جأش أصحابه ويحجم بهم العدو عن البلاد فيحجم. قال من هذا النوع وأكثر واستصرخهم فلم يصرخوه واستغاثهم فلم يغيثوه فشتى بأرمية وأشتوا. وفي الربيع توجه إلى نواحي ديار بكر وصار يزجي أوقاته بالتمتع واللهو والشراب والطرب كأنه يودع الدنيا وملكها الفاني. وبينما هو في ذلك يسر لا بل يغر فجئه هجوم بايماس نوين في عسكره ليلاً فتكلف للانتباه وعاين نيران المغول بالقرب من مكانه فتقدم إلى الأمير أورخان أن يلم به الجماعة ويشغل المغول عند الصبح بالاقدام تارةً والاحجام أخرى وفر هو مع ثلاثة نفر من مماليكه تائهاً في جبال ديار بكر. فلما أصبحوا ظن المغول أن جلال الدين خوارزمشاه فيهم فجدوا في طلبهم طاردين في أعقابهم وهم منهزمون بين أيديهم ولما تحققوا أنه ليس معهم رجعوا عنهم. فأما جلال الدين خوارزمشاه فأوقع به قومٌ من الأكراد ببعض جبال آمد ولم يعرفوه وقدروه من بعض جند الخوارزمية فقتلوه والمملوكين طمعاً في ثيابهم وخيلهم وسلاحهم. استنبط ذلك من جهة أن بعد مديدةٍ يسيرةٍ دخل بعض أولئك الأكراد إلى آمد وعليه من سلاح جلال دين. فعرفه مملوكٌ له كان قد لجأ إلى صاحب آمد فقبض الكردي وقرر فأقر بما افتعله هو وأصحابه فأحضرهم وقتلهم حنقاً عليهم. وقال قوم أن المقتول لم يكن جلال الدين وإنما كان سلاحداره لأنه يومئذٍ لم يحمل سلاحاً ولا كان يلبس ثياب العادة وإنما كان بزي الصوفية مع اصحابه ولذلك دائماً كان يرجف الناس أن جلال الدين خوارزمشاه قد رأوه بالبلد الفلاني وبالمدينة الفلانية حتى أنه في سنة اثنتين وخمسين وستمائة اتفق جماعة من التجار عابرين على نهر جيحون وهناك القراغول وهم مستحفظو الطرق فأنكروا على فقيرٍ كان صحبة التجار مجهول فلما قرروه أقر أنه جلال الدين خوارزمشاه فقبضوه وكرروا عليه العذاب والسؤال فلم يغير كلامه إلى أن مات تحت العقوبة. فإن لم يكن هو واعتمد ذلك إلى هذه الغاية فلا شك أن الجنون فنون.ن. فعرفه مملوكٌ له كان قد لجأ إلى صاحب آمد فقبض الكردي وقرر فأقر بما افتعله هو وأصحابه فأحضرهم وقتلهم حنقاً عليهم. وقال قوم أن المقتول لم يكن جلال الدين وإنما كان سلاحداره لأنه يومئذٍ لم يحمل سلاحاً ولا كان يلبس ثياب العادة وإنما كان بزي الصوفية مع اصحابه ولذلك دائماً كان يرجف الناس أن جلال الدين خوارزمشاه قد رأوه بالبلد الفلاني وبالمدينة الفلانية حتى أنه في سنة اثنتين وخمسين وستمائة اتفق جماعة من التجار عابرين على نهر جيحون وهناك القراغول وهم مستحفظو الطرق فأنكروا على فقيرٍ كان صحبة التجار مجهول فلما قرروه أقر أنه جلال الدين خوارزمشاه فقبضوه وكرروا عليه العذاب والسؤال فلم يغير كلامه إلى أن مات تحت العقوبة. فإن لم يكن هو واعتمد ذلك إلى هذه الغاية فلا شك أن الجنون فنون

ولما استقر قاان في الملك وانقاد له القاصي والداني من جيوش المغول عزم على فتح بلاد الخطا وسير في مقدمته أخويه جغاتاي والغ نوين وباقي الأولاد في عساكر عظيمة. فساروا ونازلوا أولاً مدينةً يقال لها حرجا بنو يقسين وهي على شط قراموران فأحاطوا بها وحصروها مدة أربعين يوماً وكان فيها عشرة آلاف من فرسان الخطا فلما عاينوا العجز عن مقاومة المغول ركبوا السفن التي كانوا أعدوها هاربين. وطلب أهل البلد الأمان فأومنوا ورتب المغول عندهم الشحاني وقصدوا باقي المواضع. وجهز قاان أخاه الغ نوين وولده كيوك وسيرهم في عشرة آلاف فارس في المقدمة وسار هو بعقبهم فتمهل ومعه العسكر الكبير. فجيش التون خان ملك الخطا مائة ألف من شجعانه وقدمم عليهم أميراً من أمرائه وأنفذهم للقاء المغول. فلما وصلوا إليهم استحقروهم لقلتهم بالنسبة إليهم وتهاونوا في أمرهم وأرادوا أن يسوقوهم كما هم إلى ملكهم التون خان ليفرجوا بهم عنه غمه إذا هو ضرب عليهم حلقة وصادهم صيداً. فشغلهم المغول بفتور المكافحة وأطمعوهم إلى أ، وصلت الأفواج التي مع قاان فأوقعوا بعسكر الخطا ولم يفلت منهم إلا النزر. وكان التون خان بمدينة تسمى نامكينك فلما بلغه الخبر بما جرى على أصحابه ارتاع وآيس من حياة الدنيا وجمع أولاده ونساءه وكل من يعز عليه ودخلوا بيتاً من بيوت الخشب وأمر بضرب النار فيه فاحترق هو ومن معه أنفةً من الوقوع في أسر المغول. ودخلت عساكر المغول إلى المدينة ونهبوا وأسروا البنين والبنات وأمنوا الباقي. وفتحوا غيرها من المدن المشهورة ورتب بها قاان الشحاني وقفل إلى مواضعه القديمة وبنى بها مدينة سماها اردوباليق وهي مدينة قراقورم وأسكنها خلفاً من أهل الخطا وتركستان والفرس والمستعربين. وبينما هم مسرورون بفتح بلاد الخطا توفي تولي خان وكان أحب الأخوة إلى قاان فاغتم لذلك كثيراً وأمر أن زوجته المسماة سرقوتنى بيكي وهي ابنة أخي اونك خان تتولى تدبير عساكره وكان لها من الأولاد أربعة بنين مونككا قوبلاي هولاكو أريغ بوكا. فأحسنت تربية الأولاد وضبط الأصحاب وكانت لبيبة مؤمنة تدين بدين النصرانية تعظم محل المطارنة والرهبان وتقتبس صلواتهم وبركتهم وفي مثلها قال الشاعر

فلو كان النساء كمثل هذه … لفضلت النساء على الرجالِ

وبعد قليل مات أيضاً الأخ الكبير وهو المسمى توشي وخلف سبعة بنين وهم تمسل هردو باتوا سيبقان تنكوت بركه بركجار. ومن بين هؤلاء لباتوا سلم قاان البلاد الشمالية وهي بلاد الصقالبة واللان والروس والبلغار وجعل مخيمه على شاطىء نهر اتلو غزا هذه النواحي فقتل فيها خلائق بلغ عددهم مائتي ألف وسبعين ألفاً علم ذلك من آذان القتلى التي قطعوها امتثالاً لمرسوم قاان لأنه تقدم بقطع الأذن اليمنى من كل قتيل. وبعد فراغ باتوا من أمر الصقالبة تجهز للدخول إلى نواحي القسطنطينية فبلغ ذلك ملوك الفرنج فجاؤوا حافلين حاشدين والتقوا المغول في أطراف بلد البلغار وجرت بينهم حروب كثيرة انجلت عن كسرة المغول وهزيمتهم وهربهم فقفلوا من غزاتهم هذه ولم يعودوا يتعرضون إلى بلاد يونان وفرنجة إلى يومنا هذا

وفي سنة ثلاثين وستمائة أرسل السلطان علاء الدين كيقباذ صاحب الروم رسولاً إلى قاان وبذل الطاعة. فقال قاان للرسول : اننا قد سمعنا برزانة عقل علاء الدين وإصابة رأيه فإذا حضر بنفسه عندنا يرى منا القبول والإكرام ونوليه الاختاجية في حضرتنا وتكون بلاده جارية عليه. فلما عاد الرسول بهذا الكلام تعجب منه كل من سمعه واستدل على ما عليه قاان من العظمة. وفيها أخذ علاء الدين خلاط وسرمارى من الملك الأشرف وغزا الأشرف مدينة حصن منصور وأغار عليها وأخذ الكامل مدينة آمد من صاحبها وعوضه عنها قرى بالشام. وفيها توفي مظفر الدين كوكبري بن زين الدين علي كوجك صاحب اربل في رمضان وحمل إلى مكة فدفن بها وولي اربل إنسان شريف يقال له أبو المعالي محمد بن نصر بن صلايا من قبل الخليفة المستنصر. وفي سنة إحدى وثلاثين وستمائة مات ناصر الدين محمود بن القاهر نور الدين صاحب الموصل ووصل التقليد من الخليفة لبدر الدين لؤلؤ بالولاية فخطب له على المنابر بالسلطنة. وفي سنة اثنتين وثلاثين حصر السلطان علاء الدين مدينة الرها وملكها عنوةً فدخلها الروميون ووضعوا السيف بها ثلاثة أيام وقتلوا النصارى والمسلمين فتكاً ونهباً فأصبح الرهاويون فقراء لا يملكون شيئاً ونهبت البيع وأخذ ما فيها من الكتب والصلبان وآلات الذهب والنقرة وحمل أهل حران مفاتيح قلعتها فملكوها هدنة وملكوا الرقة والبيرة أيضاً. فلما عاد عنها عسكر الروم قصد الملك الكامل الرها وحاصرها أربعة أشهر ثم ملكها وهدم برجاً كبيراً من أبرجة قلعتها وحمل من وجد بها من الروميين كل اثنين على جمل وبعث بهم إلى مصر مقيدين

وفي سنة ثلاث وثلاثين وستمائة غزا التاتار بلد اربل وعبروا إلى بلد نينوى ونزلوا على ساقية قرية ترجلى وكرمليس فهرب أهل كرمليس ودخلوا بيعتها وكان لها بابان فدخلها المغول وقعد أميران منهم كل واحد على باب وأذنوا للناس في الخروج عن البيعة فمن خرج من أحد بابيها قتلوه ومن خرج من الباب الآخر اطلقه الأمير الذي على ذلك الباب وأبقاه فتعجب الناس لذلك

وفي سنة أربع وثلاثين وستمائة توفي السلطان علاء الدين كيقباذ صاحب الروم بغتة لأنه كان قد صنع دعوةً عظيمة حضر بها الأمراء الأكابر وأتباعهم وأكثر الجند. فبينما هو يظهر السرور والفرح ويتباهى بما أعطي من الملك إذ حس بوجع في أحشائه وأخذته خلفة فاختلف إلى المتوضأ فانسهل برازاً دموياً صرفاً كثير المقدار وسقطت قوته في الحال. وفي اليوم الثاني من هذا العرض مات وكان ملكه ثماني عشرة سنة وكان عاقلاً عفيفاً ذا بأس شديد على حاشيته وأمرائه وكانت الدولة السلجوقية قبله محلولةً بسبب الخلف الواقع بين أولاد قلج أرسلان فلما وليها علاء الدين أعاد جدتها وجدد ناموسها وألقى الله هيبته في قلوب الخلق فأطاعوه واتسع ملكه جداً ودان له العالم وبحق قيل له سلطان العالم وحضر عنده الملوك وأذعنوا له بالطاعة وكان قاسي القلب. ولما توفي أحضر الأمراء ولده غياث الدين كيخسرو فبايعوه وحلفوا له. وفيها توفي الملك العزيز بن الملك الظاهر بن صلاح الدين صاحب حلب وولي بعده ابنه الملك الناصر صلاح الدين وهو آخر الملوك من بيت أيوب قتله هولاكو في سنة ثماني وخمسين وستمائة. وفيها أعني سنة أربع وثلاثين في شهر شوال غزا التاتار بلد اربل وهرب أهل المدينة إلى قلعتها. فحاصروها أربعين يوماً ثم أعطوا مالاً فرحلوا عنها. ولما ولي السلطان غياث الدين كيخسرو السلطنة ببلد الروم قبض على غاير خان أمير الخوارزمية فهرب باقي الخوارزمية وأمراؤهم ولما اجتازوا بملطية وكاختين وخرتبرت أسروا سيف الدولة السوباشي وقتلوا ببرمير سوباشي خرتبرت وأغاروا على بلد سميساط وعبروا إلى السويداء فأقطعهم الملك الناصر صاحب حلب ما بين النهرين الرها وحران وغيرهما فكفوا عن الفساد والغارات. وفي سنة خمس وثلاثين وستمائة توفي الملك الأشرف بن الملك العادل بن أيوب بدمشق وكان عمره ستين سنة وكان كريماً سخياً مقبلاً على التمتع بالدنيا ولذاتها يزجي أوقاته برفاغية من العيش. وفيها مات أيضاً الملك الكامل بن الملك العادل بن أيوب صاحب مصر بدمشق ودفن بها وكان عمره سبعين سنة وكان عاقلاً فاضلاً حسن السياسة كثير الإصابة سديد الرأي شديد الهيبة عظيم الهمة محباً للفضائل وأهلها

وفيها غزا التاتار العراق ووصلوا إلى تخوم بغداد إلى موضع يسمى زنكاباذ وإلى سرمرأى. فخرج إليهم مجاهد الدين الدويدار وشرف الدين إقبال الشرابي في عساكرهما فلقوا المغول وهزموهم وخافوا من عودهم فنصبوا المنجنيقات على سور بغداد. وفي آخر هذه السنة عاد التاتار إلى بلد بغداد ووصلوا إلى خانقين فلقيهم جيوش بغداد فانكسروا وعادوا منهزمين إلى بغداد بعد أن قتل منهم خلقٌ كثير وغنم المغول غنيمة عظيمة وعادوا. وفيها حدث ببغداد مد دجلتها مداً عظيماً هائلاً وغرق دور كثيرة وغرق سفينتان فهلك فيهما نحو خمسين نسمة. وفي سنة سبع وثلاثين وستمائة جهز السلطان غياث الدين جيوشاً إلى ارمينية فامتنع المغول من الدخول إلى بلد الروم

و في سنة ثماني وثلاثين وستمائة ظهر ببلد اماسيا من أعمال الروم رجل تركماني ادعى النبوة وسمى نفسه بابا فاستغوى جماعة من الغاغة بما كان يخيل إليهم من الحيل والمخاريق. وكان له مريد اسمه اسحق يتزيا بزي المشايخ فأنفذه إلى أطراف الروم ليدعو التركمانيين إلى المصير إليه. فوافى اسحق هذا بلد سميساط وأظهر الدعوة لبابا فاتبعه خلقٌ كثير من التركمان خصوصاً وكثف جمعه وبلغ عدد من معه ستة آلاف فارس غير الرجالة فحاربوا من خالفهم ولم يقل كما يقولون لا إله إلا الله بابا رسول الله فقتلوا خلقاً كثيراً من المسلمين والنصارى من أهل حصن منصور وكاخنتين وكركر وسميساط وبلد ملطية ممن لم يتبعهم وكانوا يهزمون كل من لقيهم من العسكر حتى وصلوا إلى أماسيا. فأنفذ إليهم السلطان غياث الدين جيشاً فيه جماعة من الفرنج الذين في خدمته فحاربوهم وكان الجند المسلمون لم يتجرأوا عليهم ويحجموا عنهم لما توهموا منهم. فأخر الفرنج المسلمين وتولوا بأنفسهم محاربة الخوارج فكشفوهم ورموا فيهم السيف وقتلوهم طراً وأسروا الشيخين بابا واسحق فضرب عنقاهما وكفوا الناس شرهم

وفي سنة تسع وثلاثين حاصر جرماغون نوين مدينة ارزن الروم وملكها عنوةً وقتل فيها خلائق من أهلها وسبى الذراري وشن الغارة عليها وقتل سنان سوباشها. وفي سنة أربعين وستمائة سار السلطان غياث الدين كيخسرو إلى ارمينية في جمع كثيف وجهاز لم يتجهز أحد مثله في عساكره وعساكر اليونانيين والفرنج والكرج والأرمن والعرب لمحاربة التاتار فالتقى العسكران بنواحي ارزنكان بموضع يسمى كوساذاغ وأوا وهلة باشر المسلمون ومن معهم الجيوش النصرانية الحرب وهلوا وادبروا ولوا هاربين فانهزم السلطان مبهوتاً فأخذ نساءه وأولاده من قيسارية وسار إلى مدينة انقورة فتحصن بها. وأقام المغول يومهم ذلك مكانهم ولم يقدموا على التقدم فظنوا أن هنال كميناً إذ لم يروا قتالاً يوجب هزيمتهم وهم في تلك الكثرة من الأمم المختلفة. فلما تحققوا الأمر انتشروا في بلاد الروم فنازلوا أولاً مدينة سيواس فملكوها بالأمان وأخذوا أموال أهلها عوضاً عن أرواحهم وأحرقوا ما وجدوا بها من آلات الحرب وهدموا سورها. ثم قصدوا مدينة قيسارية فقاتل أهلها أياماً ثم عجزوا ففتحوها عنوة ورموا فيها السيف وأبادوا أكابرها وأغنياءها معاقبين على اظهار الأموال وسبوا النساء والأولاد وخربوا الأسوار وعادوا ولم يتوغلوا في باقي بلاد السلطان. ولما سمع أهل ملطية ما فعل التاتار بقيسارية هلعوا وجزعوا أفحش الجزع. فأجفل رشيد الدين الخويني أميرها ومعه أصحابه طالبين حلب وكذلك من أمكنه الهرب من أماثلها. وكان من جملة من يريد الخروج بأهله والدي فأحضر الدواب وكان لنا فيها بغل للسرج فلما أرادوا شد الاكاف عليه ليحملوه شمص وتفلت. فبينما هم يتبعونه في الزقاق ليلزموه قالوا لهم : إن الفتيان من العامة وثبوا في باب المدينة وينهبون كل من رأوه يخرج. فأمسك والدي عن الخروج واجتمع بالمطران دينوسيوس وتشاوروا في مرابطة المدينة وجمعا المسلمين والنصارى في البيعة الكبيرة وتحالفوا أن لا يخون بعضهم بعضاً ولا يخالفوا المطران في جميع ما يتقدم إليهم من مداراة التاتار والقيام بحفظ المدينة والبيتوتة على أسوارها وكف أهل الشر عن الفساد. فنظر الله إلى حسن نياتهم ودفع العدو عنهم ووصلوا بالقرب من ملطية ولم يتعرضوا إليها. وأما الذين خرجوا من المدينة مجفلين فأدركهم المغول عند قرية يقال لها باجوزة على عشر فراسخ من المدينة فقتلوا الرجال وسبوا النساء والأولاد ومن سلم منهم في المغائر والشعاب والأودية الغائرة من النساء والرجال عاد إلى ملطية عرياناً حافياً وكان ذلك في شهر تموز سنة الف وخمسمائة وأربع وخمسين للإسكندر. وكر المغول على مدينة ارزنكان وملكوها عنوة وقتلوا رجالها وسبوا الذراري ونهبوها وخربوا سورها ومضوا. ولما راى السلطان العجز عن مقاومة التاتار أرسل إليهم رسلاً يطلب الصلح فصالحوه على مال وخيل وأثواب وغيرها يعطيهم كل سنة مبلغاً معيناً مقاطعة

وفيها توفي الإمام المستنصر بالله الخليفة ببغداد وكان عاقلاً عادلاً لبيباً كريماً كثير الصدقات عمر المدارس والمساجد والرباطات القديمة وكان قد تهدم معظمها ومن شدة غرامه بمدرسته المعروفة بالمستنصرية اعمر لصقها بستانا خاصاً له فقل ما يمضي يوم إلا ويركب في السيارة ويأتي البستان يتنزه فيه ويقرب من شباك مفتح في إيوان المدرسة ينظر إلى البستان وعليه ستر فيجلس وراء الستر وينظر إلى المدرسة ويشاهد أحوالها وأحوال الفقهاء ويشرف عليهم ويتفقد احوالهم. وكانت مدة خلافته نحو ثماني عشرة سنة

***

وفي سنة خمس وعشرين وستمائة توفي حسنون الطبيب الرهاوي وكان فاضلاً في فنه علماً وعملاً ميمون المعالجة حسن المذاكرة بما شاهده من البلاد. وكان أكثر مطالعته في كتاب اللوكري في الحكمة. وكان شيخاً بديناً بهياً دخل إلى مملكة قلج أرسلان وخدم أمراء دولته كأمير اخور سيف الدين واختيار الدين حسن واشتهر ذكره. ثم خرج لى ديار بكر وخدم من حصل هناك من بيت شاه أرمن وهزارديناري ثم الداخلين على تلك الديار من بيت ايوب ورجع إلى الرها. ولما تحقق أن طغرل الخادم تولى أتابكية حلب وله به معرفة من دار أستاذه اختيار الدين حسن في الديار الرومية جاء إليه إلى حلب ولم يجد عنده كثير خير وخاب مسعاه فإنه كان منكسراً عند اجتماعه به وانفصاله عنه. فلما عوتب الخادم على ذلك من أحد خواصه قال : أنا مقصر بحقه لأجل النصرانية. ولما عزم على الارتحال إلى بلده أدركته حمى أوجبت له إسهالاً سحجياً ثم شاركت الكبد في ذلك فقضى نحبه ودفن في بيعة اليعاقبة بحلب

وفي سنة ست وعشرين وستمائة توفي يعقوب بن صقلان الطبيب النصراني الملكي المقدسي وكان مولده بالقدس الشريف وبه قرأ شيئاً من الحكمة على تاذوري الفيلسوف الانطاكي وسيأتي ذكره بعد هذا التاريخ. وأقام يعقوب هذا بالقدس على حالته في مباشرة البيمارستان إلى أن ملكه الملك الأعظم بن الملك العادل بن أيوب فاختص به ولم يكن عالماً وإنما كان حسن المعالجة بالتجربة البيمارستانية ولسعادة كانت له. ثم نقله الملك المعظم إلى دمشق وارتفعت عنده حاله وكثر ماله وأدركه نقرس ووجع مفاصل أقعده عن الحركة حتى قيل أن الملك المعظم كان إذا احتاج إليه في أمراضه استدعاه بمحفة تحمل بين الرجال. ولم يزل على ذلك إلى أن مات المعظم صاحبه ومات هو بعده بقليل

ومن الأطباء المشهورين في هذا الزمان الحكيم أبو سالم النصراني اليعقوبي الملطي المعروف بابن كرابا خدم السلطان علاء الدين كيقباذ صاحب الروم وتقدم عنده وكان قليل العلم بالطب إلا أنه كان أهلاً لمجلسه لفصاحة لهجته في اللسان الرومي ومعرفته بأيام الناس وسير السلاطين. وفي سنة اثنتين وثلاثين لما سار علاء الدين من ملطية إلى خرتبرت ليملكها تخلف عنه أبو سالم هذا ولم يسر في ركابه وكان السلطان لا يصبر عنه ساعة. ولما بات السلطان على الفرات ولم يأته الحكيم أمر الشحنة الذي على الزواريق أن نهار غد إن جاء أبو سالم قبل الزوال فليعبر وإن جاء بعده لا تمكنه من العبور. فلما كان من الغد تأخر مجيئه إلى العصر فأخبره الشحنة بمرسوم السلطان فأحس بتغير فعاد إلى منزله وشرب سماً ومات. ومنهم الحكيم شمعون الخرتبرتي وكان أيضاً ضعيف العلم لكنه كان خيراً ديناً كثير الصوم والصلاة. وانتشى له ولد حسن محصل وأجاد الخط العربي وصار فيه طبقة ومات في حداثة سنه ففجعت مصيبته أباه

وفي هذا الزمان كان جماعة من تلامذة الإمام فخر الدين الرازي سادات فضلاء أصحاب تصانيف جليلة في المنطق والحكمة كزين الدين الكشي وقطب الدين المصري بخراسان وأفضل الدين الخونجي بمصر وشمس الدين الخسروشاهي بدمشق وأثير الدين الأبهري بالروم وتاج الدين الارموي وسراج الدين الارموي بقونية. حكى النجيب الراهب المصري الحاسب بدمشق عن الملك الناصر داود بن الملك المعظم بن الملك العادل ابن ايوب صاحب الكرك أنه كان يتردد إلى شمس الدين الخسروشاهي يقرأ عليه كتاب عيون الحكمة للشيخ أبي علي بن سينا وكان إذا وصل إلى رأس المحلة التي بها منزل الخسروشاهي أومأ إلى من معه من الحشم والمماليك ليقفوا مكانهم ويترجل ويأخذ كتابه تحت إبطه ملتفاً بمنديل ويجيء إلى باب الحكيم ويقرعه فيفتح له ويدخل ويقرأ ويسأل عما خطر له ثم يقوم ولم يمكن الشيخ من القيام له

” المستعصم بن المستنصر ”
وفي سنة أربعين وستمائة بويع المستعصم يوم مات أبوه المستنصر وكان صاحب لهو وقصف شغف بلعب الطيور واستولت عليه النساء وكان ضعيف الرأي قليل العزم كثير الغفلة عما يجب لتدبير الدول وكان إذا نبه على ما ينبغي أن يفعله في أمر التاتار إما المداراة والدخول في طاعتهم وتوخي مرضاتهم أو تجيش العساكر وملتقاهم بتخوم خراسان قبل تمكنهم واستيلائهم على العراق فكان يقول : أنا بغداد تكفيني ولا يستكثرونها لي إذا نزلت لهم عن باقي البلاد ولا أيضاً يهجمون علي وأنا بها وهي بيتي ودار مقامي. فهذه الخيالات الفاسدة وأمثالها عدلت به عن الصواب فأصيب بمكاره لم تخطر بباله

وفي سنة إحدى وأربعين غزا يساور نوين الشام ووصل إلى موضع يسمى حيلان على باب حلب وعاد عنها لحفيٍ أصاب خيول المغول واجتاز بملطية وخرب بلدها ورعى غلاتها وبساتينها وكرومها وأخذ منها أموالاً عظيمة حتى خشل النساء وصلبان البيع ووجوه الأناجيل وآنية القداس المصوغة من الذهب والفضة ثم رحل عنها. وطلب طبيباً يداويه في سحج عرض له فأخرج إليه والدي وسار معه إلى خرتبرت فدبره حتى برأ. ثم جاء ولم يطل المقام بملطية ورحل بنا إلى إنطاكية فسكناها. وأقحطت البلاد بعد ترحال التاتار ووبئت الأرض فهلك عالم وباع الناس أولادهم باقراص الخبز

وفي سنة اثنتين وأربعين أغر التاتار على بلد بغداد ولم يتمكنوا من منازلتها. وفيها سير السلطان غياث الدين جيشاً عظيماً إلى مدينة طرسوس فحاصروها مدة وضيقوا عليها وكادوا يفتحونها عنوة فاتفق أن مات السلطان غياث الدين في تلك الأيام. فلما بلغهم موت السلطان رحلوا عنها خائبين وكان الوقت خريفاً وتواترت على الروميين الأمطار وتوحلت خيولهم فنال منهم رجالة الأرمن وغنموا أثقالهم. وكان السلطان غياث الدين مقبلاً على المجون وشرب الشراب غير مرضي الطريقة منغمساً في الشهوات الموبقة تزوج ابنة ملك الكرج فشغفه حبها وهام بها إلى حد أن أراد تصويرها على الدراهم فأشير عليه أن يصور صورة أسد عليه شمس لينسب إلى طالعه ويحصل به الغرض. وخلف غياث الدين ثلاثة بنين عز الدين وأمه رومية ابنة قسيس وركن الدين وأمه أيضاً رومية وعلاء الدين وأمه الكرجية. فولي السلطنة عز الدين وهو الكبير وحلف له الأمراء وخطب له على المنابر وكان مدبره والأتابك له الأمير جلال الدين قرطاي رجل خير دين صائم الدهر ممتنع عن أكل اللحم ومباشرة النساء لم ينم في فراش وطيء وإنما كان نومه على الصناديق في الخزانة أصله رومي وهو من مماليك السلطان علاء الدين وتربيته وكان له الحرمة الوافرة عند الخاص والعام. وفي سنة ثلاث وأربعين ترددت رسل المغول في طلب السلطان عز الدين ليحضر بنفسه في خدمة قاان. فتعلل محتجاً بمعاداة من يجاوره من ملوك اليونانيين والأرمن اياه وأنه متى فارق بلاده ملكها هؤلاء وكان يرضي الرسل بالهدايا وبذل الأموال ويدافعهم من وقت إلى وقت. ثم سير أخاه ركن الدين وفوض تدبيره إلى بهاء الدين الترجمان وجعله أتابكه وأرسله صحبته واستوزر عز الدين لنفسه رجلاً اصفهانياً وهو صاحب علم وفضل يلقب بشمس الدين فتمكن من الدولة إلى حد أن تهيأ له التزوج بأم السلطان عز الدين فثقل ذلك على الأمراء طراً

وفيها مرض قاان ولما اشتد مرضه سير رسولاً في طلب ابنه كيوك فأهرع إليه من غير توقف فلم يمهل القضاء ليجتمع بالوالد فأقام بالمكان الذي بلغه فيه وفاته وكانت والدته توراكينا خاتون ذات دهاء كافية فطنة فاتفق جغاتاي وباقي الأولاد على أنها تتصرف في تدبير الممالك إلى وقت القوريلتاي لأنها أم الأولاد الذين لهم استحقاق الخانية. وفي سنة أربع وأربعين وستمائة تم اجتماع الأولاد والأحفاد وأمراء المغول في وقت الربيع وحضر في المجمع من غير المغول أيضاً مما وراء النهر وتركستان الأمير مسعود بيك ومن خراسان الأمير أرغون آغا وصحبته أكابر العراق واللور وأذربيجان وشروان. ومن الروم السلطان ركن الدين. ومن الأرمن الكندسطبل اخو التكفور حاتم. ومن كرجستان الداودان الكبير والصغير. ومن الشام أخو الملك الناصر صاحب حلب. ومن بغداد فخر الدين قاضي القضاة ومن علاء الدين صاحب الالموت محتشمو قهستان. فإذ تم هذا المجمع العظيم الذي لم يعهد مثله وقع الاتفاق على كيوك. وكان له أخوان آخران أحدهما يسمى كوبان والآخر طفل يسمى سيرامون. وإنما اختير هو من دونهما لكونه مشهوراً بالغلبة والشطط والاقتحام والتسلط وكان هو أكبر الأخوة فأهل للولاية وأجلس على سرير الملك وخدموه ودعوا له كالعادة وأطاعوه وكيوك خان سموه. وفي سنة خمس وأربعين وستمائة ولى كيوك خان على بلاد الروم والموصل والشام والكرج نويناً اسمه ايلجيكتاي. وعلى ممالك الخطا الصاحب يلواج. وعلى ما وراء النهر وتركستان الأمير مسعود. وعلى بلاد خراسان والعراق وأذربيجان وشروان واللور وكرمان وفارس وطرف الهند الأمير أرغون آغا. وقلد سلطنة بلد الروم السلطان ركن الدين. وأمر بعزل السلطان عز الدين. وجعل داود الصغير المعروف بابن قيز ملكاً محكوماً لداود الكبير صاحب تفليس. وأما رسول الخليفة فخاطبه خطاب واعد وموعد بل واعظ ومنذر.و أما رسل الملاحدة فصرفهم مذلين مهانين. وكتب يراليغ عهد وامان للتكفور والملك الناصر صاحب حلب

وكان بمقام الأتابكية لكيوك خان أمير كبير اسمه قداق وكان معمداً مؤمناً بالمسيح وشاركه في ذلك أمير آخر اسمه جينقاي فهذان أحسنا النظر إلى النصارى وحسنا يقين كيوك خان ووالدته وأهل بيته بالمطارنة والأساقفة والرهابين فصارت الدولة مسيحية وارتفع شأن الطوائف المنتمية إلى هذا المذهب من الفرنج والروس والسريان والأرمن. والتزم الخاص والعام من المغول وغيرهم ممن هو بينهم أن يقولوا في السلام برخمر وهو لفظ مركب سرياني معناه بارك مالكي

وفي سنة ست وأربعين وستمائة وصل السلطان ركن الدين وبهاء الدين الترجمان إلى بلد الروم ومعهما ألفا فارس من المغول. فهم الوزير شمس الدين الأصفهاني أن يأخذ السلطان عز الدين ويصعد إلى بعض القلاع التي على البحر ويقيما هناك عاصيين إلى أن يفعل الله ما يشاء. فعلم بذلك جلال الدين قرطاي الرجل الصالح فقبض على الوزير الأصفهاني وسير فأعلم بهاء الدين الترجمان بذلك فأنفذ جماعة من أمراء المغول فأتوا إلى قونية وقرروا الوزير على الأموال والخزائن ثم قتلوه. واجتمع بهاء الدين الترجمان بجلال الدين قرطاي واتفقا على أن توزع البلاد على الأخوين فتكون قونية واقسرا وانقرة وإنطاكية وباقي الولايات الغربية لعز الدين. وقيسارية وسيواس وملطية وارزنكان وارزن الروم وغيرها من الولايات الشرقية لركن الدين. وأقطعا لعلاء الدين الأخ الصغير من الأملاك الخاصة ما يكفيه وضربوا السكة باسم الثلاثة وكتبوا السلاطين الأعاظم عز وركن وعلاء

وفي سنة سبع وأربعين وستمائة توفيت توراكينا خاتون أم كيوك خان فتشاءم كيوك خان بذلك المقام ورحل عنه متوجهاً إلى البلاد الغربية. ولما وصل إلى ناحية قمستكي وبينها وبين مدينة بيش بالغ خمس مراحل أدركه أجله في تاسع ربيع الآخر فأرسلت زوجته المسماة اغول غانميش رسولاً إلى باتوا وأعلمته بالقضية وتوجهت هي إلى جانب قوتاق وإيميل وأقامت بالمكان الذي كان يقيم به كيوك خان أولاً. فسيرت سرقوتني بيكي زوجة تولي خان وهي أكبر الخواتين يومئذٍ إليها رسولاً تعزيها وحمل إليها ثياباً وبوقتاقاً. وفيها سار باتوا من بلاده الشمالية متوجهاً إلى المشرق ليجتمع بكيوك خان لأنه كان يلج إليه بالمسير إليه فلما وصل إلى موضع يقال له الاقماق وبينه وبين مدينة قياليق ثماني مراحل بلغه وفاة كيوك خان فأقام هناك وسير رسولاً إلى أغول غانميش زوجة كيوك خان وأذن لها بالتصرف في الممالك إلى أن يقع الاتفاق على من يصلح أن يلي الأمر وأرسل أيضاً إلى الجوانب ليجتمع الأولاد والعشائر والأمراء

وفيها خرج ريدافرنس ملك فرنجة قاصداً للديار المصرية فجمع عساكره فأرسلها وراجلها جموعاً عظيمة وأزاح عليهم فسار عن بلاده بأموال جزيلة وأهبة جميلة وأرسى بعكا وانبث أصحابه في جميع بلاد الساحل. فلما استراحوا جاؤوه حاشدين حافلين وساروا في البحر إلى دمياط وملكوها بغير تعب ولا قتال لأن أهلها لما بلغهم ما هم عليه الفرنج من القوة والكثرة والعدة الكاملة هالهم أمرهم فرحلوا عنها مخفين. فوصل إليها الفرنج ولقوها خالية عن المقاتلين غير خاوية من الأرزاق فدخلوها وغنموا ما فيها من الأموال. وكان الملك الصالح بن الملك الكامل صاحب مصر يومئذٍ بالشام يحاصر مدينة حمص. فلما سمع بذلك بأن الفرنج قد ملكوا دمياط رحل عن حمص وسار مسرعاً إلى الديار المصرية ومرض في الطريق وعند وصوله إلى المنصورة عرض له في فخذه الداء الذي يسمونه الأطباء غانغرانا ثم استحكم الفساد فيها حتى آل أمرها إلى سفاقلس وهو موت العضو أصلاً فقطعوها وهو حي. وبينما هو يكابد الشدائد في هذه الحالة وافاه مقدمو دمياط الذين أخلوها منهزمين فلما قيل له ما صنعوا لأنهم فروا عنها من غير أن يباشروا حرباً وقتالاً عظم ذلك عليه فأمر بصلبهم وكانوا أربعة وخمسين أميراً فصلبوا كما هم بثيابهم ومناطقهم وخفافهم. ثم مات من غد ذلك اليوم. وتولى تدبير المملكة الأمير عز الدين المعروف بالتركماني وهو أكبر مماليك الترك. وكان مرجوعه في جميع ذلك مما يعتمده من الأمور إلى حظية الملك الصالح المتوفى المسماة شجر الدر وكانت تركية داهية الدهر لا نظير لها في النساء حسناً وفي الرجال حزماً. فاتفقا على تمليك الملك المعظم بن الملك الصالح. وكان يومئذٍ مقامه بحصن كيفا من ديار بكر فأرسلا رسولاً في طلبه وحثاه على المصير إليهم. فسار إلى الديار المصرية من غير توقف فبايعوه وحلفوا له وسلموا إليه ملك أبيه

في سنة ثماني وأربعين وستمائة سير ريدافرنس عسكراً نحو ألفي فارس نحو المنصورة ليجس بهم ما هم عليه المصريون من القوة. فلقيهم طرف من عسكر المسلمين فاقتتلوا قتالاً ضعيفاً فانهزم المسلمون بين أيديهم فدخل الفرنج المنصورة ولم ينالوا منها نيلاً طائلاًلأنهم حصلوا في مضايق أزقتها وكان العامة يقاتلونهم بالحجارة والآجر والتراب وخيولهم الضخمة لم تتمكن من الجولان بين الدروب. وكان القائد لعسكر المسلمين فخر الدين عثمان المعروف بابن السيف أحد الأمراء المصريين شيخ كبير أحاط به الفرنج وهو في الحمام يصبغ لحيته فقتلوه هناك. وعادوا إلى ريدافرنس وأعلموه بما تم لهم مع ذلك العسكر وبالمدينة. فزاد طمعه وطمع من معه من البطارقة ظانين أنه إذا كان الالتقاء خارج الجدران بالصحراء لم يكن للمسلمين عليهم مقدرة.فعبى جيوشه وسار بهم طالباً أرض مصر. فصبر المصريون إلى أن عبر الفرنج الخليج من النيل المسمى اشمون وهو بين البرين بر دمياط وبر المنصورة. فتوجهوا نحوهم والتقى العسكران واقتتل الفريقان قتالاً شديداً. وانجلت الحرب عن كسرة الفرنج وهزموا افحش هزيمة ومنعهم الخليج المذكور من أن يفوزوا وينجوا بأرواحهم فغرق منهم خلق كثير وقتل آخرون وأسر الملك ريدافرنس ومعه جماعة من خواصه وأكابره. فلما حصل ملك الفرنج في قبضة الملك المعظم قال له المماليك الصغار أقرانه : إننا نرى الأمر كله إلى شجر الدر والأمراء وليس لك من السلطنة إلا اسمها فلو كنت في الحصن كنت أرفه خاطراً منك وأنت صاحب مصر والحكم لغيرك والسبب في هذا ليس إلا حاجتك إليهم في مقاومة الفرنج وليس لك عدو سواهم فالرأي أن تصالح هذا الملك ومن معه من أمرائه إلى أي مدة شئت فإنه لا يخالفك في جميع ما تريد منه إذا اصطنعته ووهبت له روحه وتأخذ منه الأموال والجواهر التي له في دمياط ويسلم إليك دمياط ويذهب في حال سبيله وتأمن شره وشر أهل ملته وتستريح من الأمراء واستخدام الجند وتبقي في ملكك من اخترت وتزيل من كرهت. فصغا المعظم إلى قولهم واستصوب رأيهم ودبر الأمر مع ريدافرنس وحلفه كما أراد من غير أن يشاور الأمراء الكبار في شيءٍ من ذلك. فأحسوا بالقضية وتحققوا تغير المعظم عليهم وما قد نوى أن يفعل بهم فنقموا عليه ووثبوا به فهرب منهم وصعد إلى برج من خشب كان هناك فضربوا فيه النار فلما وصلت إليه وشاطته رمى نفسه إلى الخليج النيلي. فجاؤوا إليه ورموه بالنشاب وهو في الماء فمات غريقاً جريحاً

واتفق الأمراء التراك وقدموا عليهم أميراً منهم يلقب بعز الدين التركماني ونهضوا إلى ريدافرنس وجددوا معه اليمين وافتدي منهم بألف ألف دينار وتسلم دمياط فأطلقوه ثم سار التركماني من المنصورة إلى مصر وأقطع الإسكندرية لأمير من الترك يقال له فارس اقطاي وتزوج شجر الدر وصار ملك مصر في قبضتهما. وأما ريدافرنس لما وصل إلى دمياط أخذ أهله ومن تخلف من أصحابه وخرج عنها وسلمها إلى المسلمين وأقام هو بعكا وبنى مدينة قيسارية وأصلحها وأسكنها جماعة ثم سار إلى بلده

ولما ولي التركماني الديار المصرية كان الأمر كله إلى شجر الدر لا تمكنه التصرف إلا فيما يصدر عن رأيها فكره ذلك ولم يطق احتماله وهم بإهلاكها. فشعرت بذلك وسبقته. ففعلت به ما أراد أن يعمل بها وأشلت عليه المماليك الصغار. وفي بعض الأيام لما دخل الحمام وكانوا يسكبون على رأسه الماء ليغتسل جرحوه بالسكاكين فقتلوه. وقيل مقلوا رأسه في الماء داخل الخزانة إلى أن اختنق مغطوطاً. وأمرت شجر الدر أن يخرج ويدفن فأخرجوه ودفنوه في الدار. ولما بلغ ذلك الأمراء الكبار عظم عليهم فعلها فوثبوا بها وقتلوها ورموها في الخندق فأكلتها الكلاب. وقدموا عليهم واحداً منهم اسمه قوتوز فحلفوا له وملكوه ولقبوه الملك المظفر. ولما استولى المماليك على الديار المصرية سار الملك الناصر صاحب حلب بجريدة إلى دمشق فسلمها إليه أهلها فملكها وأقام بها وصارت دار مملكته. ثم راسله بعض المماليك من مصر ليسير إليهم فيسلموا له مصر فعبى عسكره وسار إلى نحو الديار المصرية ليملكها كما ملك دمشق. فلمابلغ أمراء الترك ذلك بادروا إليه في عساكرهم والتقوا الشاميين بناحية غزة وكسروهم وهزموهم فعاد الملك الناصر فيمن معه خائباً خاسراً. وفيها ملك بدر الدين لؤلؤ جزيرة ابن عمر وأسر صاحبها الملك مسعود بن الملك المعظم من بيت أتابك زنكي وسيره في ركوة إلى الموصل وتقدم إلى من وكل به ليرميه ليلة في دجلة فغرقوه وأخبروا أنه رمى نفسه وهم نيام ولم يحسوا بما فعل

وفيها وهي سنة ألف وخمسمائة وثلاث وستين للإسكندر توجه حاتم ملك الأرمن إلى خدمة مونككا قاان أخذ قربان خميس الفصح ورحل عن مدينة سيس يوم الجمعة الصلبوت وخرج متنكراً مع رسول له بزي بعض الغلمان وأخذ على يده جنيباً يجذبه خلف الرسول لأنه كان خائفاً من السلطان صاحب الروم. وذكر الرسول اين ما جاء واجتاز من بلد الروم أنه قد أرسله الملك حاتم ليأخذ له الأمان من مونككا قاان فإذا أمنه توجه هو بنفسه إلى حضرته. حدثني الملك حاتم عند اجتماعي به بمدينة طرسوس بعد سنين من عودته من خدمة مونككا قاات قال : عبرت بقيسارية وسيواس مع الرسول ولم يعرفني أحد من أهلها قط إلا لما دخلنا مدينة ارزنكان عرفني رجل من السوقية كان قد سكن عندنا فقال : إن كانتا هاتان عيني فهذا ملك سيس. فلما سمع الرسول كلامه التفت إلي ولطمني على خدي وقال : يا نذل صرت تتشبه بالملوك. فاحتملت اللطمة لأزيل بها ظن من كان ظنه يقيناً

وفي سنة إحدى وخمسين وستمائة توجه هولاكو إيلخان من نواحي قراقورم إلى البلاد الغربية. وسير معه مونككا قاان الجيوش من كل عشرة اثنين وصحبه أخوه الصغير سنتاي أغول ومن جانب باتوا بلغاي بن سبقان وقوتار أغول وقولي في عساكر باتوا. ومن قبل جغاتاي تكودار أغول بن بوخي أغول. ومن جانب جيحكان بيكي بوقا تيمور في عسكر الاويرات. ومن ناحية الخطا ألف بيت من صناع المنجنيقات وأصحاب الحيل في إصلاح آلات الحرب. فكان أمير الترك كيدبوقا الباورجي. وكان القائم مقام هولاكو بأردو مونككا قاان ولده جومغار بسبب أن أمه أكبرخواتين هولاكو أبيه. وأخذ صحبته ابنه الكبير اباقا وابنه الآخر يسمون ومن الخواتين الكبار دوقوز خاتون المؤمنة المسيحية والجاي خاتون. وفي سنة اثنتين وخمسين وستمائة تواترت الايلجية في طلب السلطان عز الدين صاحب الروم ليحضر هو بنفسه في خدمة مونككا قاان. فتجهز وسار حتى وصل إلى مدينة سيواس. ولما سمع أن الأمراء قد مالوا إلى ركن الدين أخيه ويرومون تمليكه عاد مسرعاً إلى قونية وأرسل أخاه علاء الدين وكتب معه كتباً يذكر فيها : إنني قد سيرت أخي علاء الدين وهو سلطان مثلي وأنا لم يمكنني المجيء بسبب أن أتابكي ومدبري جلال الدين قرطاي قد مات وظهر لي أعداء من ناحية المغرب فإذا كفيت شرهم جئت المرة الأخرى. فلما سار علاء الدين توفي في الطريق ولم يصل إلى الاردو. وأراد عز الدين أن يقتل ركن الدين أخاه الآخر ويأمن غائلته فأحس الأمراء بذلك وهربوه بأن ألبسوه ثياب بعض غلمان الطباخين ووضعوا على رأسه خوانجه فيها طعام وأخرجوه من الدار والقلعة في جماعة من الصبيان قد حملوا طعاماً إلى بعض الدور. فلما خرج أركبوه فرساً وساروا به حتىأوصلوه إلى قيسارية وانضم إليهم هناك جماعة من الأمراء وجيشوا وتوجهوا نحو قونية ليحاربوا عز الدين. فبرز إليهم عز الدين بمن نعه من العسكر فكسرهم وهزمهم وأسر ركن الدين أخاه واعتقله بقلعة دوالوا. وفي سنة ثلاث وخمسين وستمائة وصل رسول بايجو نوين إلى السلطان عز الدين يطلب منه مكاناً يشتي به لأن بلد موغان الذي كان يشتوبه صار مشتى لهولاكو. فأبى السلطان أن يجيبه إلى ذلك وطمع فيه وظنه منهزماً بين يدي هولاكو وجيش وحاربه عند خان السلطان بين قونية واقسرا وانكسر عز الدين وهرب متوغلاً في بلاده الداخلة. فأخرج بايجو اخاه ركن الدين من الحبس وملكه على جميع بلاد الروم

وفيها وصل الملك حاتم ودخل بلده أول أيلول وكان مجيئه صحبة بايجو نوين. وفيها في شهر شعبان نزل هولاكو بمروج مدينة سمرقند واقام بها أربعين يوماً. وهناك أدرك أخاه سنتاي أغول أجله وأخبر بوفاة أخيه الآخر في طرف بلادر فتكدر خاطره لهاتين الوقعتين فوصل إليه الأمير أرغون وأكثر أكابر خراسان وقووا عزمهم فعبروا ماء جيحون وكان الوقت شتاءً شديد البرد لا يقشع الغيم ولا ينقطع وقوع الثلج من تلك البقاع إلى وقت حلول الشمس برج الحمل. فأمر الأمراء أن يقصدوا في عساكرهم قلاع الملاحدة وكان مقدم الاسمعيلية يومئذٍ ركن الدين خوزشاه بن علاء الدين فأخرب خمس قلاع من قلاعه التي لم يكن فيها ذخائر للحصار. وأقبل رسول هولاكو إلى حد قصران. وكان كيدبوقا قد سبق ففتح قلعة شاهديز وثلثاً آخر من قلاعهم. ولما وصل إيلخان إلى عباساباذ سير ركن الدين إلى العبودية صبياً عمره نحو سبع أو ثماني سنين وذكر أنه ولده. فلم يخف صنيعه على هولاكو ولكن لم يكاشفه في ذلك بل أعز الصبي وأكرمه ثم أعاده إليه. وبعد وصول هذا الابن المزور إلى ركن الدين سير أخاه شيرازنشاه في ثلاثمائة رجل على سبيل الحشر. فسير هولاكو الثلاثمائة إلى جمالاباذ من بلد قزوين وأعاد أخاه محملاً رسالة إليه وهي أنه إلى خمسة أيام إن لم يصل بنفسه إلى الخدمة يحكم قلعته ويستعد للحرب. فأرسل رسولاً يقول : إنه لا يتجاسر على الخروج خوفاً من حشمه الذين معه داخل القلعة لئلا يثبوا به فإذا وجد فرصة جاء. فعرف هولاكو أنه مماطل مدافع من وقت إلى آخر فرحل رابع عشر شوال من سنة أربع وخمسين وستمائة من بيشكام ونزل على القلعة المحاذية لميمون دره وتقدم بقتل الثلاثمائة رجل من الملاحدة الذين كانوا بجمالاباذ قزوين سراً وصار أهل قزوين يضربون بذلك مثلاً لمن يقتل فيقولون انبعث إلى جمالاباذ. ولما عاين ركن الدين نزول هولاكو بالقرب سير رسولاً يقول : إن سبب تماطلي لم يكن غير أنني ما كنت أحقق وصوله المبارك والآن أنا نازل اليوم أو غداً. وكان تلك الليلة ليلة الميلاد. فلما عزم على الخروج ثاوره العلاة من الملاحدة وواثبه الفدائيون ولم يمكنوه من الخروج. فسير إلى هولاكو وأعلمه ما هم عليه من التمرد. فأمره أن يداري الوقت معهم محافظاً نفسه منهم وكيف ما كان يحتال للنزول ولو متنكراً. وتقدم إلى الأمراء ليحتفوا بالقلعة وينصبوا المنجنيقات ويقاتل كل منهم من يقاتله من الاسمعيلية. فلما اشتغل الملاحدة بقتال المغول نزل ركن الدين ومعه ولده وخواصه إلى عبودية هولاكو وأظهر الخجلة بل الندامة معترفاً بما اقترفه في الأيام الماضية من الجرائم والآثام. فشملته لطائف عواطف ايلخان وبدل ما عند ركن الدين من الاستيحاش والاستنفار بالاستيناس والاستبشار. ولما تحقق من بالقلعة ما نال صاحبهم من الطمأنينة والكرامة سلموا القلعة ونزلوا عنها فحاول المغول هدمها وفتحوا أيضاً جميع القلاع التي في ذلك الوادي. وتوجه ايلجي إلى متولي قلعة الموت ليتبع مولاه ركن الدين في توخي الايلية وتسليم القلعة. فأبى إلا العصيان إلى أن نازله بلغاي أغول في عساكر جمة فطلب الأمان وسلمها وخرج عنها في أواخر ذي القعدة من السنة المذكورة. وفي تلك الأيام وصل شمس الدين محتشم قلاع قهستان وأخذ يرليغاً وسار معه أصحاب ركن الدين إلى قهستان ليخرب جميع القلاع التي هناك وهي تزيد على خمسين حصناً حصيناً وتسلموها وفتحوها إلا قلعتين منها هما كرذكوه وكمشير فإنهم لم يطيقوا فتحها في الحال إلا بعد سنتين. ووصل أكابر الديلم صالحوا المغول على تخريب قلاعهم. وفي أواسط ذي الحجة عاد هولاكو إلى الاردو بناحية همذان وسير ركن الدين وبنيه وبناته وأزواجه إلى قزوين. وفي سنة خمس وخمسين وستمائة التمس ركن الدين خوزشاه من هولاكو أن يسيره إلى عبودية مونككا قاان. فأعجبه ذلك وأرسله ومعه تسعة نفر من أصحابه صحبة الايلجية. فلما وصلوا إلى مدينة بخارا خاصم الايلجية وتسافه عليهم فحقدوا عليه. فلما وصلواإلى قراقورم لم يؤذن لركن الدين أن يحضر وبرز مرسوم مونككا قاان إليه أن : يجب عليك العود إلى بلدك والتقدم إلى نوابك ليسلموا قلعتي كرذكوه وكمشير فإذا سلموهما وأخربتهما تحضر مرة أخرى ويكون لك التليشميشي أي الإكرام والقبول. فنكص ركن الدين بهذا الرجاء على عقبه. وفي الطريق أهلك مع من كان معه من أصحابه. ووصل يرليغ مونككا قاان إلى هولاكوليقتل الملاحدة بأسرهم ولا يبقى منهم أثر. فأرسل قراقاي اليبتكتجي إلى قزوين وقتل بني ركن الدين وبناته وإخوته وأخواته مع جميع عساكر الملاحدة وأوتكو حنا نوين أيضاً أخرج من رعايا الاسمعيلية بحجة الحشر اثني عشر ألف رجل وقتلهم كلهم وأخلى الأرض من كل من ألحد في دينه.قبول. فنكص ركن الدين بهذا الرجاء على عقبه. وفي الطريق أهلك مع من كان معه من أصحابه. ووصل يرليغ مونككا قاان إلى هولاكوليقتل الملاحدة بأسرهم ولا يبقى منهم أثر. فأرسل قراقاي اليبتكتجي إلى قزوين وقتل بني ركن الدين وبناته وإخوته وأخواته مع جميع عساكر الملاحدة وأوتكو حنا نوين أيضاً أخرج من رعايا الاسمعيلية بحجة الحشر اثني عشر ألف رجل وقتلهم كلهم وأخلى الأرض من كل من ألحد في دينه

وفيها سير السلطان عز الدين رسولاً إلى خدمة هولاكو شاكياً على بايجو نوين أنه أزاحه عن ملكه. فأمر هولاكو أن يتقاسما الممالك هو وأخوه ركن الدين. فظهر عز الدين فأتى إلى قونية ومضى ركن الدين مع بايجو نوين إلى مخيمه. ولخوف عز الدين من بايجو نوين وجه مملوكه طفلاً إلى نواحي ملطية وخرتبرت ليستخدم له عسكراً من الأكراد والتركمان والعرب. فوصل هذا المملوك وسير في طلب شرف الدين أحمد ابن بلاس من بلد الهكار وشرف الدين محمد بن الشيخ عدي من بلد الموصل الكرديين فأتياه. فأقطع ابن بلاس ملطية وابن الشيخ عدي خرتبرت. أما ابن بلاس فلم يقبله اهل ملطية لأنهم كانوا مستحلفين لركن الدين فكان يضطهدهم ويجور عليهم. فما احتملوه وآل أمرهم معه إلى أن وثبوا بأصحابه وقتلوا منهم نحو ثلاثمائة رجل وهرب هو مع من تبعه من أصحابه واجتازوا ببلد قلوذيا وأحرقوا دير ماذيق يوم الشعانين وعبروا إلى بلد آمد وهناك أدركهم صاحب ميافارقين وقتل ابن بلاس وأسر أصحابه. وأما ابن الشيخ عدي فرحل من خرتبرت ليتصل بالسلطان عز الدين فأدركه أنكورك نوين وقتله ومن معه. ثم ولى السلطان عز الدين ملطية رجلاً بطلاً شجاعاً يقال له علي بهادر فقبله أهل ملطية خوفاً من صرامته. وهذا علي حارب الاعجزية وهم قوم مفسدون من التركمان كانوا يغيرون على؟ البلاد ويقتلون أهلها ويسبون الذراري فأسر مقدمهم المسمى جوتي بك وسجنه بقلعة المنشار وهزم جيوشهم . فأمن الناس شرهم وانفتحت السبل وامتار الناس الطعام وفرج الله عنهم غمهم قيلاً. وبينما هم فرحون بذلك إذ وافاهم بايجو نوين في عساكره وصاروا يقاتلون متسلمي القلاع ليسلموها إلى ركن الدين. ونزلوا على مدينة ابلستين وقتلوا من أهلها نحو ستة آلاف رجل وأسروا النساء والبنين والبنات. وجاؤوا إلى ملطية فهرب علي بهادر إلى كاختة. وخرج أهل ملطية إلى خدمة بايجو نوين بأنواع الترغو والتحف. وكن ذلك في منتصف أيلول سنة ألف وخمسمائة وثماني وستين للإسكندر. فحلفهم لركن الدين ورحل عنهم بعد أن أخذ أموالاً وولى ركن الدين على ملطية مملوكاً له اسمه فخر الدين اياز. ولما خرج بايجو من حدود الروم طالباً للعراق عاد علي بهادر إلى ملطية فأغلق أهلها الأبواب ولم يمكنوه من الدخول خوفاً من بايجو. فحصرها أياماً واشتد الغلاء بها وبلغ المكوك من الملح إلى أربعين درهماً والحنطة المكوك بسبعين درهماً. فضجر الناس وضاقت بهم الحيلة ففتح العامة الحاكة وغيرهم باباً من أبواب المدينة في بعض الليالي فدخلها علي بهادر وأصحابه التركمانيون عنوةً وأصعد إلى المنابر جماعة ينادون ويقولون : إن الأمير قد أمن الرعية النصارى منهم والمسلمين فليخرج كل واحدٍ إلى عمله ودكانه وليشتغل ببيعه وشرائه فإنما كلامه مع الحكام.فلما أصبحوا قبض على فخر الدين اياز مملوك السلطان ركن الدين وسجنه وأركب شهاب الدين العارض على بهيم حقير وطوفه بملطية ثم قتله وشد أحد طرفي رسن في رقبة المعين الايكد بشاسي والطرف الآخر في رقبة كلب ومشاه بالأسواق ثم ضرب عنقه. وعاقب المستوفي الرومي القسيس قالويان وولده كيريوري واخويه باسيل ومانويل واستصفى أموالهم ثم قتلهم. وقتل أيضاً الأمراء الثلاثة أولاد الأمير شهاب الدين إيسو الكردي. واشتد الجوع بملطية وبلدها حتى أكل الناس الكلاب والسنانير وكانوا ينقعون الجلود اليابسة التي لدم بها النعال فيأكلونها مطبوخة. واجتاز جماعة من أصحابنا بقرية اسمها باعبدون ببلد جوباس من أعمال ملطية فرأوا جماعة من النساء قد اجتمعن في بيت وقدامهن ميت ممدود وبأيديهن السكاكين وهن يشرحن لحمه ويشوينه ويأكلن. وامرأة أخرى شوت ابنها الصغير في تنورٍ لها ولما كبسها مجاوروها حلفت أنها لم تقتله وإنما مات ففعلت به ذلك زاعمة أنها به أولى من الديدان.و بعد ما فعل علي بهادر تلك الرزايا بأعيان ملطية ومثل بأماثلها لم يهنأ له بها عيش لما كان أهلها عليه من البلاء والجلاء والجدب. فخرج عنها ملماً بالسلطان عز الدين

و فيها مرض ثاوذوروس ملك الروم بمدينة نيقية وكان في خدمته بطريق يقال له ميخائيل ويلقب بباليولوغس أي الكلام المتقدم. وذلك أن العلماء من الروم بعد تغلب الافرنج على القسطنطينية تقدموا فقالوا إن ملكاً في اسمه الميم والخاء من حروف اليونانيين ينزع الفرنج عنها ويعيدها إلى الروم. فكان الملك ثاوذوروس يخاف هذا ميخائيل لئلا يتغلب على الملك. ولما اشتد خوفه منه سجنه واعتقله ببعض قلاع بلد تسالونيقي ولم يمكنه إهلاكه بغير جريمة تظهر منه. وفي مرضه هذا أرسل بطريقاً يقال له غاذينوس ليأتيه به. فلما وصل غاذينوس هذا إلى ميخائيل قال له سراً : أنت الملك فكن لبيباً وأسلم نفسك إلي ولا تظهر كراهية أصلاً ورأساً ليزول بذلك ما حصل عند الملك من الخيالات في شأنك. فأجاب ميخائيل إلى ذلك وحمله مقيداً إلى الملك. ولما مثل بين يديه بكى وأظهر الكآبة العظيمة. فرق له الملك وحن إليه وأقبل عليه وأوصى إليه في تربية قالويان ابنه وتدبيره وكان الابن وقتئذٍ طفلاً وأشرك معه في ذلك البطريرك ارسانيوس. وبعد مدة مديدة توفي ثاوذوروس ودفن في دير مغنيسيا. وكان له أخت تسمى كيرايلونيا ولها ختن على ابنتها يقال له موزالون فخرجت معه إلى الدير بحجة زيارة قبر الملك وأقاما به أياماً يتشاوران في أمر الملك واتفقا على أن يقبضا على ميخائيل ومن يرى رأيه ويتولى تدبير الطفل موزالون. فشعر ميخائيل بدسيستهما وسير عليهما جماعة من جند الفرنج الذين كانوا في خدمته وأمرهم أن يقتلوهما معاً حيث وجدوهما. فدخل الفرنج الدير ولقوهما في البيعة وقت صلاةالعشاء فقطعوهما موضعهما ونادوا بشعار ميخائيل بمدينة نيقيا قائلين : ميخائيل يا منصور ميخائيل ملك يونان باليولوغس أوطوقراطور رومانيا. ومن هناك سار ميخائيل إلى مدينة نيقية وخطب له بالمملكة بجميع تلك البلاد واعتقل الطفل قالويان ابن الملك ببعض القلاع ونفى البطريرك ارسانيوس الذي وبخه على فعله هذا. ولما تمكن من الملك لم يكن له اهتمام إلا بأخذ قسطنطينية فسار إليها مرة ولم يقدر على فتحها فصبر إلى أن ثارت الفتنة بين البنادقة والجنوية بمدينة عكا فسار البنادقة أجمعين عن القسطنطينية إلى عكا لنصرة أصحابهم وكانوا هم الحفظة لها. واحتال حيلة أخرى بأن أشار إلى متولي بعض قلاع الروم ليكاتب بغدوين الفرنجي صاحب القسطنطينية ويقول له : إن هذا ميخائيل قد تغلب على مملكة الروم بغير استحقاق وهو ظالم معتد على بيت أستاذه وأنا كاره له وأنت أولى بهذه القلعة منه لأنك ملك ابن ملك وميخائيل خارجي. فابعث لي عسكراً وأنا أسلمها إليهم ولا بد من منجنيقات تكون معهم فينصبونها ويظهرون القتال والزحف ليكون لي عذر عند الناس إذا سلمتها. فاغتر بغدوين الفرنجي بكلامه وقدره صادقاً بما قال فأرسل من كان عنده من المقاتلين إلى تلك القلعة ونازلوها واشتغلوا بنصب المنجنيقات والاستعداد للقتال. وحينئذٍ عبرميخائيل في عساكره خليج القسطنطينية ونزل عليها وهي خالية عن رجال الحرب وحال بينها وبين العسكر الذي كان على القلعة المذكورة. فدله بعض الرعاة على باب عتيق للمدينة قد عفا أثره ولم يفتح من عهد قسطنطينوس فنبشوه ودخلوا المدينة وملكوها ليلاًو تغافلوا عن بغدوين صاحبها عمداً حتى خرج في أهل بيته وصار إلى بلاد الفرنج في البحر. وكان مدة بقاء القسطنطينية بيد الفرنج نحو ثلاث وخمسين سنة ثم عادت إلى الروم كما كانت أولاً

و فيها في شهر شوال رحل هولاكو عن حدود همذان نحو مدينة بغداد. وكان في أيام محاصرته قلاع الملاحدة قد سير رسولاً إلى الخليفة المستعصم يطلب منه نجدة فاراد أن يسير ولم يقدر ولم يمكنه الوزراء والأمراء وقالوا : إن هولاكو رجل صاحب احتيال وخديعة وليس محتاجاً إلى نجدتنا وإنما غرضه إخلاء بغداد عن الرجال فيملكها بسهولة. فتقاعدوا بسبب هذا الخيال عن إرسال الرجال. ولما فتح هولاكو تلك القلاع أرسل رسولاً آخر إلى الخليفة وعاتبه على إهماله تسيير النجدة. فشاوروا الوزير فيما يجب أن يفعلوه فقال : لا وجه غير إرضاء هذا الملك الجبار ببذل الأموال والهدايا والتحف له ولخواصه. وعندما أخذوا في تجهيز ما يسيرونه من الجواهر والمرصعات والثياب والذهب والفضةو المماليك والجواري والخيل والبغال والجمال قال الدويدار الصغير وأصحابه : إن الوزير إنا يدبر شأن نفسه مع التاتار وهو يروم تسليمنا إليهم فلا نمكنه من ذلك. فبطل الخليفة بهذا السبب تنفيذ الهدايا الكثيرة واقتصر على شيءٍ نزر لا قدر له. فغضب هولاكو وقال : لا بد من مجيئه هو بنفسه أو يسير أحد ثلاثة نفر إما الوزير وإما الدويدار وإما سليمانشاه. فتقدم الخليفة إليهم بالمضي فلم يركنوا إلى قوله فسير غيرهم مثل ابن الجوزي وابن محيي الدين فلم يجديا عنه. وأمر هولاكو بايجو نوين وسونجاق نوين ليتوجها في مقدمته على طريق اربل وتوجه هو على طريق حلوان. وخرج الدويدار من بغداد ونزل بجانب ياعقوبا. ولما بلغه أن بايجو نوين عبر دجلة ونزل بالجانب الغربي ظن أن هولاكو قد نزل هناك فرحل عن ياعقوبا ونزل بحيال بايجور ولقي يزك المغول أميراً من أمراء الخليفة يقال له ايبك الحلبي فحملوه إلى هولاكو فأمنه أن تكلم بالصحيح وطيب قلبه فصار يسير أمام العسكر ويهديهم. وكتب كتاباً إلى بعض أصحابه يقول لهم : ارحموا أرواحكم واطلبوا الأمان لأن لا طاقة لكم بهذه الجيوش الكثيفة. فأجابوه بكتاب يقولون فيه : من يكون هولاكو وما قدرته ببيت عباس من الله ملكهم ولا يفلح من يعاندهم ولو أراد هولاكو الصلح لما داس أرض الخليفة ولما أفسد فيها. والآن إن كان يختار المصالحة فليعد إلى همذان ونحن نتوسل بالدويدار ليخضع لأمير المؤمنين متخشعاً في هذا الأمر لعله يعفو عن هفوة هولاكو. فلما عرض ايبك الكتاب على هولاكو ضحك واستدل به على غباوتهم. ثم سمع الدويدار أن التاتار قد توجهوا نحو الأنبار. فسار إليهم ولقي عسكر سونجاق نوين وكسرهم وهزمهم وفي هزيمتهم التقاهم بايجو نوين فردهم وهجموا جميعاً على عسكر الدويدار فاقتتلوا قتالاً شديداً وانجلت الحرب عن كسرة الدويدار فقتل أكثر عسكره ونجا هو في نفر قليل من أصحابه ودخل بغداد

وفي منتصف شهر المحرم من سنة ست وخمسين وستمائة نزل هولاكو بنفسه على باب بغداد وفي يوم وليلة بنى المغول بالجانب الشرقي سيباً أعني سوراً عالياً وبنى بوقاتيمور وسونجاق نوين وبايجو نوين بالجانب الغربي كذلك وحفروا خندقاً عميقاً داخل السيبا ونصبوا المنجنيقات بإزاء سور بغداد من جميع الجوانب ورتبوا العرادات وآلات النفط. وكان بدء القتال ثاني وعشرين محرم. فلما عاين الخليفة العجز في نفسه والخذلان من أصحابه أرسل صاحب ديوانه وابن درنوش إلى خدمة هولاكو ومعهم تحف نزرة. قالوا : إن سيرنا الكثير يقول : قد هلعوا وجزعوا كثيراً. فقال هولاكو : لم ما جاء الدويدار وسليمانشاه. فسير الخليفة الوزير العلقمي وقال : أنت طلبت أحد الثلاثة وها أنا قد سيرت إليك الوزير وهو أكبرهم. فأجاب هولاكو : إنني لما كنت مقيماً بنواحي همذان طلبت أحد الثلاثة والآن لم أقنع بواحد. وجد المغول بالقتال بإزاء برج العجمي وبوقاتيمور من الجانب الغربي حيث المبقلة وسونجاق نوين وبايجو نوين من جانب البيمارستان العضدي. وأمر هولاكو البتيكتجية ليكتبوا على السهام بالعربية : ان الاركاونية والعلويين والداذنشمدية وبالجملة كل من ليس يقاتل فهو آمن على نفسه وحريمه وأمواله. وكانوا يرمونها إلى المدينة. واشتد القتال على بغداد من جميع الجوانب إلى اليوم السادس والعشرين من محرم. ثم ملك المغول الأسوار وكان الابتداء من برج العجمي. واحتفظ المغول الشط ليلاً ونهاراً مستيقظين لئلا ينحدر فيه أحد. وأمر هولاكو أن يخرج إليه الدويدار وسليمانشاه وأما الخليفة إن اختار الخروج فليخرج وإلا فليلزم مكانه. فخرج الدويدار وسليمانشاه ومعهما جماعة من الأكابر. ثم عاد الدويدار من الطريق بحجة أنه يرجع ويمنع المقاتلين الكامنين بالدروب والأزقة لئلا يقتلوا احداً من المغول فرجع وخرج من الغد وقتل. وعامة أهل بغداد أرسلوا شرف الدين المراغي وشهاب الدين الزنكاني ليأخذ لهم الأمان. ولما رأى الخليفة أن لا بد من الخروج أراد أو لم يرد استأذن هولاكو بأن يحضر بين يديه فأذن له وخرج رابع صفر ومعه أولاده وأهله. فتقدم هولاكو أن ينزلوه بباب كلواذ وشرع العساكر في نهب بغداد ودخل بنفسه إلى بغداد ليشاهد دار الخليفة وتقدم بإحضار الخليفة فأحضروه ومثل بين يديه وقدم جواهر نفيسة ولآلىء ودرراً معباة في أطباق ففرق هولاكو جميعها على الأمراء وعند المساء خرج إلى منزله وأمر الخليفة أن يفرز جميع النساء التي باشرهن هو وبنوه ويعزلهن عن غيرهن ففعل فكن سبعمائة امرأة فأخرجهن ومعهن ثلاثمائة خادم خصي. وبقي النهب يعمل إلى سبعة أيام ثم رفعوا السيف وبطلوا السبي. وفي رابع عشر صفر رحل هولاكو من بغداد وفي أول مرحلة قتل الخليفة المستعصم وابنه الأوسط مع ستة نفر من الخصيان بالليل وقتل ابنه الكبير ومعه جماعة من الخواص على باب كلواذ وفوض عمارة بغداد إلى صاحب الديوان والوزير وابن درنوش. وأرسل بوقا تيمور إلى الحلة ليمتحن أهلها هل هم على الطاعة أم لا. فتوجه نحوها ورحل عنها إلى مدينة واسط وقتل بها خلقاً كثيراً أسبوعاً. ثم عاد لى هولاكو وهو بمقام سياكوه

***

و كان من الفضلاء المعتبرين في هذه السنين القاضي الأكرم جمال الدين بن القفطي مصنف كتاب تاريخ الحكماء مولده بقفط من أعمال صعيد مصر سنة ثماني وستين وخمسمائة رحل به أبوه طفلاً وأسكنه القاهرة المعزية وبها قرأ وكتب وشدا شيئاً من الأدب. ثم خرج إلى الشام فأقام بحلب وصحب بها الأمير المعروف بالميمون القصري. واجتمع في هذه المدة بجماعة من العلماء واستفاد بمحاضرتهم وفقه بمناظرتهم. ثم لازم منزله بعد وفاة الأمير المذكور إلى أن ألزم بالخدمة في أمور الديوان في أيام الملك الظاهر فتولى ذلك وهو كاره للولاية متبرم بها. فلما مات الملك الظاهر عاد فانقطع في منزله مستريحاً من معاناة الديوان مجتمع الخاطر على شأنه من المطالعة والفكرة منقبضاً عن الناس محباً للتفرد والخلوة لا يكاد يظهر لمخلوقٍ حتى قلده الملك العزيز وزارته سنة ثلاث وثلاثين وستمائة. فلم يزل في هذا المنصب مدة أيام الملك العزيز والملك الناصر ابنه حتى توفي ثالث عشر رمضان سنة ست وأربعين وستمائة

من حكماء هذا الزمان نجم الدين النخجواني كان ذا يد قوية في الفضائل وعارضة
عريضة في علوم الأوائل تفلسف ببلاده وسار في الآفاق وطوف ودخل الروم وولي المناصب الكبار ثم كره كدر الولاية ونصبها فارتحل إلى الشام وأقام بحلب منقطعاً في دار اتخذها لسكناه لا يمشي إلى مخلوق ولكن يمشى إليه إلى أن مات بها. وكان شديد الميل إلى مذهب التناسخ وله مؤاخذات على منطق الإشارات وشرحها أيضاً وتناول الأفضل الخونجي بالاستنقاص وزيف أقواله في كتاب الكشف فيما يتعلق بعكس النقيض والموضوع الخارجي والحقيقي ومنعه إنتاج الصغرى الممكنة في الشكل الأول وانعكاس السالبة الكلية الضرورية كنفسها إلى غير ذلك

ومنهم الحكيم ثاذري الإنطاكي اليعقوبي النحلة أحكم اللغة السريانية واللاطينية بإنطاكية وشدا بها شيئاً من علوم الأوائل. ثم هاجر إلى الموصل وقرأ على كمال الدين ابن يونس مصنفات الفارابي وابن سينا وحل أوقليذس والمجسطي. ثم عاد إلى إنطاكية ولم يطل المكث بها ولما رأى في نفسه من التقصير في التحصيل فعاد مرة ثانية إلى ابن يونس وأنضج ما استنهأ من علمه وانحدر إلى بغداد وأتقن علم الطب وقيد أوابده وتصيد شوارده وقصد السلطان علاء الدين ليخدمه فاستغربه ولم يقبل عليه فرحل إلى الأرمن وخدم قسطنطين أبا الملك حاتم ولم يستطب عشرتهم فسار مع رسول كان هناك للأمبرور ملك الفرنج فنال منه أفضالاً ووجد له به نوالاً وأقطعه بمدينة كما هي بأعمالها. فلما صلح حاله وكثر ماله اشتاق إلى بلده وأهله ولم يؤذن له بالتوجه فأقام إلى أن امكنته الفرصة بخروج الملك في بعض غزواته إلى بلاد المغرب فضم أطرافه وجمع أمواله وركب سفينة كان قد أعدها لهربه وسار في البحر مع من معه من خدمه يطلبون بر عكا. فبينما هم سائرون ذهبت عليهم ريحٌ رمت بهم إلى مدينة كان الملك قد أرسى بها فلما أخبر ثاذري بذلك تناول شيئاً من سم كان معه ومات خجلاً لا وجلاً لأن الملك لم يكن يسمح بإهلاك مثله

ومن الأطباء المشاهير في هذا الزمان الحكيم مسعود البغدادي المعروف بابن القس طبيب حاذق نبيل خدم الخليفة المستعصم واختص به وطب حرمه وأولاده وخواصه وارتفعت منزلته لديه. ولما جرى ببغداد ما جرى انقطع عن الناس ولزم منزله إلى أن مات. وخلف ولده غرس النعمة أبا نصر وكان أبو نصر فاضلاً عاقلاً ذا فنون خبيراً بأصول الهندسة فاكاً مشكلاتها وكان ضئيلاً مسقاماً لا يقطع استعمال ماء الشعير صيفاً وشتاءً وكان غزاؤه دوائياً نزراً ومات كهلاً

ومنهم الحكيم عيسى البغدادي المعروف بابن القسيس الحظيري كان أبوه طبيباً فاضلاً يقرأ عليه ويؤخذ منه. وكان حاد المزاج يسرع إليه الغضب. جرى لي معه مفاوضة في أمر تقديم السريان الليل على النهار مستدلين التوراة وهو قوله تعالى : وصار مساء وصار صباح يوماً واحداً. قلت : هذه الحجة عليهم لا لهم لأنها تنبئ عن تقدم نهار آخره مساء وتأخر ليلٍ آخره صباح ليتم بمجموعهما يوم واحد لأن الحاصل من المساء إلى الصباح إنما هو ليلة واحدة وهي نصف يوم لا يوم تام. فلم ينصفني في هذا ولا أجاب عنه بشيء أكثر من قوله : هذا مذهب أهل ملتك فكيف يسعك تكذيبهم. فقلت : أنا تابع فيه لليونانيين وأقيم عذر السريانيين وهو أن شهورهم قمرية والقمر إنما يرى استهلاله مساءً لا صباحاً فجعلوا مبادئ تواريخهم أوائل الليل ومثلهم العبرانيون والعرب لأن الليل مقدم على النهار في نفس الأمر. ومما يستدل به على علو همة الحكيم عيسى ابن القسيس أنه نسخ كتاب القانون بخطه في شبيبته ثم خرجت النسخة عن ملكه بحكم شرعي وحصلت في خزانة المدرسة المستنصرية. فلما أسن طلب النسخة وقابلها وصححها وأعادها إلى مكانها. فنسبه باغضوه إلى فضول ومحبوه إلى مثوبة يتوخاها. فقال : كلا الفريقين مخطئ وإنما فعلت ذلك لئلا يزرى علي بعد موتي. وعمر طويلاً ومات شيخاً كبيراً

ومنهم تقي الدين الرأس عيني المعروف بابن الخطاب طبيب مشهور الذكر متقن لصناعة الطب علمها وعملها غاية الاتقان خدم السلطان غياث الدين وبعده ابنه عز الدين وصار له منزلة عظيمة منهما ورفعاه من حد الطب إلى المعاشرة والمسامرة وأقطعاه إقطاعات جزيلة وكان في خدمتهما بزي جميل وأمر صالح وغلمان وخدم وصادف من دولتهما كل ما سره

ومنهم شرف الدين بن الرحبي وأخوه جمال الدين الدمشقيان. أما شرف الدين فكان بارعاً بالجزء النظري من الطب له معرفة تامة به واطلاع على أصوله تصدر لإفادة هذا الشأن وأخذ عنه جماعة من الطلبة وكان قليل التعرض لمباشرة المرضى. وسمعت وقت تحصيلي بدمشق أن له نعاليق وحواشي على القانون ولم أرها. وأما جمال الدين أخوه فكان له عناية تامة في الجزء العملي من الطب وتجارب فاضلة فيه ونفوذ مشهور في المعالجة. صحبته مدة أباشر معه المرضى بالبيمارستان النوري بدمشق وكان حسن الأخلاق لم أر في الجماعات أحسن منه زياً وصمتاً ونطقاً ومبسماً

ومنهم بدر الدين المعروف بابن قاضي بعلبك كان فاضلاً خبيرا بالمباشرة والمعالجة جميل التحيل للبرء وصنف كتاباً لطيف الحجم سماه مفرح النفس جمع فيه جملة ما يتعلق بالحواس الخمسة من المفرحات وأضاف إليه الأدوية المفردة القلبية ومركبات أيضاً حارة وباردة ومعتدلة للملوك والفقراء وأوساط الناس وأخذ فيه على الرئيس في جعله الكسفرة عديدة المفرحات

ومنهم نفيس الدولة الدمشقي النصراني الملكي المعروف بابن طليب وسيأتي ذكره في جملة أطباء هولاكو إذ هو أكبرهم

ومنهم الموفق يعقوب الدمشقي السامري كان طبيباً حاذقاً مصيباً في علاجه مستحضراًللشروح وكان ضنيناً بما يحسنه يشارط من قصده من سائر البلاد للاستفادة على إسماعه أي كتاب أراد قراءته دراهم معلومة. وهذه خساسة مباينة للأنفس الفاضلة

ومن فضلاء هذا الزمان في علوم الأوائل وجميع الفضائل نجم الدين الدمشقي المعروف بابن اللبودي تولى أمور الديوان وقلد الوزارة والغالب عليه الهندسة والعدد

ومنهم عز الدين الضرير كان من الأفاضل والأعيان المعدودين من حسنات الزمان. وله مشاركة حسنة في سائر الأنواع الفلسفية والآداب العربية وكان قوي الذكر والتخيل بحيث أنه كان يقرأ عليه وهو مكفوف ست مقالات من كتاب أوقليذس وكان يحفظ الأشكال بحروفها ويتكلم في حلها