الاراميون الشعب السامي الثالث الرئيسي *
الدكتور فيليب حتي
قبل ان يُسمى الآراميون بهذا الاسم كانوا قبائل من الرحل في بادية شمالي الجزيرة العربية . وكانوا كسائر البدو من قبلهم ومن بعدهم يضغطون من وقتٍ إلى آخر على اراضي جيرانهم النائية في بلاد بابل وسورية وهدفهم امتلاكها وقبل أن ينتصف الألف الثاني ق.م كانت هذه القبائل قد سكنت في ضفاف وادي الفرات الأوسط حيث نشأت قوميتها ولغتها ويمكن الاعتقاد بأنّ الآرامية اتت من لهجة سامية غربية كانت مستعملة في شمالي غربي بلاد الرافدين في النصف الأول للألف الثاني ولم يكتسبوا اسمهم “الآراميين” حتى ايام تغلات فلاسر الاول (نحو 11.. ق.م) حين اقاموا في منطقة الفرات الاوسط حتى سورية في الغرب وكانت الهجات الخاطية في اوائل القرن السادس عشر على بابل وشمالي سورية هي التي فتحت الابواب كما يبدو في وجه الحركة االآرامية واعطت القادمين الجدد من الصحراء محطا ثابتا في تلك المنطقة. وسهل القضاء على ميتاني عن يد الحثيين بعد قرن ونصف حركة الاراميين من جديد. وتبين ان هذه الهجرة االآرامية كانت بعد الهجرتين الامورية والكنعانية ثالث حركة سامية اتت من الصحراء.
بدء ظهورهم في بلاد الرافدين
كانت جماعات متعددة تشكل اقساماً من الحركة االآرامية ولكنها لم تكن تُعرف بهذا الاسم. فبالاضافة الى الخابيرو الذين ذكرناهم سابقا كان يوجد الاخلامو وهذه التسمية التي تعني “الرفاق” لم تكن تسمية عرقية وقد اطلقها لأول مرة كما يبدو الأموريون المقيمون في منطقة الفرات على اتحاد من القبائل.
ويخبرنا الملك الاشوري آدد نيراري الاول (نحو 13.. ق.م) أنَّ أباه قهر جماعات الاخلامو في شمالي بلاد الرافدين. وفي تحرير أرسله حتوشلش حوالي 1275 ق.م إلى أحد ملوك بابل إشارة الى الاخلامو المعادين الذين يقيمون على طول نهر الفرات . ونقرأ قبل ذلك في احدى رسائل تل العمارنة عن الاخلامو في عهد اخناتون وانهم كانوا يستولون على المدن والاراضي السورية برضى حكام وطنيين غير مخلصين إن لم يكن تحت قيادتهم وفي الوثائق التي أتت فيما بعد نجد الآراميين والاخلامو مقترنين بصورة وثيقة فالملك تغلات فلاسر الاول يقول “لقد زحفت الى وسط الاحلامي الآراميين أعداء الإله “اشور سيدي”. وكانت هذه القبائل االآرامية تعيش بجوار كركميش ولكننا نشاهد الآراميين بعد ذلك في بلاد بابل في الشرق يدعمون الكلدو (الكلدانيين او البابليين الحديثين) الذين كانت لهم صلة وثيقة بهم. ويصف تغلات فلاسر وخلفاؤه حملاتهم في مات آريمي بلاد الآراميين وذلك في كتابات اثرية اخرى.
انتشارهم في شمالي سورية
يستدل من هذه المدونات الآشورية البابلية وغيرها أنّ قسماً كبيرا من بلاد الرافدين وسورية الشمالية والوسطى قد اجتاحته في خلال القرنين الرابع عشر والثالث عشر جماعات سامية وان هذا المناطق بدأت تتخذ صفة آرامية باستثناء جيوب حثيّة قليلة منها كركميش وقد ادى ضغط الآراميين المتواصل الى طغيانهم التدريجي على الاموريين والحوريين والحثيين في وادي العاصي والمنطقة التي تليها في الشمال وإلى امتصاص هؤلاء او طردهم وكان جبل لبنان عائقا في طريق هذا التوسع نحو الغرب واستمر فيه ازدهار الجماعات الحثية والامورية بينما بقيت المدن الكنعانية في السهل الساحلي بدون ان تمس واصبحت دمشق وهي مركز دولة آرامية فيما بعد يسكنها الآراميون في 12.. ق.م وتعطي حوليات رعمسيس الثالث (1198 – 2267) التهجئة االآرامية لاسم دمشق وقد احتل الآراميون مدينة حرّان غالبا وهي احدى مراكزهم في ما بين النهرين قبل احتلالهم دمشق واقتبس القادمون الجدد بالتدريج حضارة الاموريين والكنعانيين الذين اقاموا بينهم غير انهم احتفظوا بمظهر واحد من حضارتهم وهو اللغة وبخلاف الاسرائيليين والفلسطينيين الذين أقاموا في أواخر القرن الثالث عشر في جنوبي مناطقهم فان الآراميين احتفظوا بلهجتهم الاصلية التي قدر لها ان تلعب دوراً بالغ الاهمية في حياة غربي آسيا فيما بعد.
الدول االآرامية في ما بين النهرين
وفي نهاية القرن الثالث عشر كانت الحركات االآرامية والاسرائيلية قد انتهت واصبح الشعبان يجاور واحدهما الآخر في موطنهما الجديد وظهرت الدول االآرامية الاولى في منطقة الفرات الاوسط وهي الممر بين بلاد الرافدين وسورية.
وقد سميت احداهما آرام النهرين والنهران المقصودان هما الفرات ورافده الخابور وليس الفرات والدجلة وكلمة “نهارين” المصرية هي تحريف لهذا الاسم نفسه ويظهر هذا الاسم مراراً في الكتابات المسمارية من اواخر القرن الثالث عشر ويميل الى الزوال بعد القرن التاسع عندما كان الآشوريون قد قضوا على الآراميين في هذه المنطقة ومن الدول الاخرى في ما بين النهرين دولة فدان آرام ولم تكن باتساع آرام النهرين وكان مركزها مدينة حرّان.
والواقع ان الكلمتين تستعملان بالترادف في العهد القديم. وكانت تقع حرّان على طريق تجاري عظيم – ومعنى اسمها “طريق” – واصبحت من اعظم مراكز الحضارة االآرامية والمرويات العبرانية التي لم تنس الصلة العبرانية االآرامية القديمة جعلت اسلاف الشعب العبراني يأتون من هذه المنطقة قبل استقرارهم في فلسطين.
وتقول هذه المرويات أنّ إبراهيم اوفد رسوله الى حرّان ليبحث عن زوجة لابنه اسحق وهي رفقة كما تقول أنّ يعقوب ذهب بنفسه ليتزوج ليئة وراحيل. وهكذا فان اسلاف ابناء يعقوب هم آراميون من جهة الام. وهنالك عبارة تسمى أبا الامة العبرانية آراميا وسفر التكوين الذي يدون بدء التاريخ العبراني مملوء بالتعابير ذات الصبغة االآرامية وبالمفردات االآرامية وكان اسلاف الشعب العبراني يتكلمون االآرامية كما يظن قبل استقرارهم في فلسطين واقتباسهم اللهجة الكنعانية المحلية.
آرام دمشق
غير أنّ اهم الدول العديدة التي اسَّسها الآراميون كانت تلك التي كان مركزها أولًا في صوبة ثم في دمشق وقد تأسست مملكة دمشق في اواخر القرن الحادي عشر فكانت معاصرة تقريبا لتأسيس المملكة العبرانية وتطورت فأصبحت مملكة كبرى تمتد إلى الفرات من جهة وإلى اليرموك من جهة اخرى وكانت متاخمة للاراضي الاشورية في الشمال والعبرانية في الجنوب وكانت سورية الداخلية شرقي جبل لبنان وسورية الشمالية وباشان تحت سلطتها الاكيدة في حوالي 1… ق.م ومنطقة دمشق هذه هي التي يعنيها العهد القديم حين يشير إلى آرام او سورية وقد كان هؤلاء الآراميون في سورية خلال قرنين ألد أعداء العبرانيين.
كانت صوبة عاصمة مملكة بنفس الاسم والكلمة مشتقة من صهوبة بمعنى احمر او نحاس ويظن ان موقعها هو في كالس او عنجر الحديثة جنوبي زحلة في البقاع وقد بدأت الاصطدامات بين ملوكها ومنافسيهم العبرانيين في الجنوب في عهد شاول مؤسس المملكة العبرانية وكان من اقدم ملوك صوبة حدد عزر (اي حدد عون) الذي أدى انتصار داود عليه إلى اعطاء ذلك الملك العبراني السلطة على مصادر ذلك المعدن الهام النحاس ولم ينتصر داود على حدد عزر وحلفائه فحسب وإنما نجح في احتلال دمشق موقتاً وبعد فترة قصيرة نجد رصين ملك هذه المدينة يعمل كتابع لصوبة ويقوم بمحاربة اسرائيل “طيلة ايام سليمان” وتنتقل السيادة بعد ذلك من صوبة إلى دمشق وعندما انقسمت المملكة العبرانية الى قسمين في عام 922 كان ذلك من مصلحة ملوك دمشق الذين كانوا يقيمون المملكة الواحدة ضدَّ الاخرى.
واخذ بنحدد الاول ملك دمشق (حوالي 879 – 843) من ملك يهوذا كنوزا ثمينة من المعبد ومن القصر الملكي في اورشليم ثم هاجم ملك اسرائيل وجعل جلعاد في شرقي الاردن تحت السيطرة االآرامية والواقع ام مملكة اسرائيل كانت كما يبدو تابعة اسمية لآرام منذ اواخر ملكها عمري (حوالي 875) وعندما رفض آخاب ابن عمري ووريثه دفع الجزية أو الانضمام الى التحالف ضد الهجوم الآشوري الذي كان وشيك الوقوع ظهر بنحدد بغتة أمام عاصمته السامرة ليجبره على الطاعة.
معركة قرقر
وبلغت هذه الغزوة الاشورية ذروتها في المعركة التي حارب فيها شلمناصر الثالث في عام 853 ق.م وكان تحالف الملوك السوريين يضم اثني عشر ملكاً يرأسهم بنحدد الذي كان جيشه يضم 1.2.. مركبة و 1.2.. فارس و 2….. من المشاة وقد اتى الملك آخاب بالجيش الثاني في قوته وبعده اتى جيش ملك حماة وقدمت ممالك مدن فينيقية كثيرة قواتها للمساهمة في المعركة وكان عدد الجيوش التي وقفت بوجه شلمناصر في موقعة قرقر على العاصي 6….. جندي وانتهت بدون نتيجة حاسمة وكان على الآشوريين ان ينتظروا سنين كثيرة اخرى قبل ان يتمكنوا من اخضاع دمشق.
حزائيل
ويظهر وريث بنحدد واسمه حزائيل (بمعنى “ايل قد رأى” حوالي 8.5) كأعظم محارب في التاريخ الآرامي فبعد أن صمد لهجومين قام بهما شلمناصر في 842 و 838 قاد حملة ضدَّ اسرائيل ووسّع ممتلكاته في شرقي الاردن الى الجنوب حتى نهر آرنون (الموجب) الذي يصب في البحر الميت وكان ياهو (نحو 842 – 814) الذي كان يدفع الجزية لشلمناصر هو ملك اسرائيل حينذاك وكانت اسرائيل تحت رحمة آرام في عهد يهواجاز وريث ياهو حتى أنّ حزائيل لم يترك له أيّة قوّة فيما سوى خمسين فارساً وعشر مركبات وتوسّع حزائيل في فتوحاته حتى سهل فلسطين الساحلي بقصد الاستيلاء على طريق التجارة مع مصر والجزيرة العربية . ثم “حوَّل حزائيل وجهه ليصعد الى اورشليم” ولكنهم منعوه من ذلك بعد أن قدموا له الذهب والكنوز التي كانت في المعبد وعندما تضعضعت قوة الذين خلفو حزائيل بسبب الهجمات الآشورية عجزوا عن المحافظة على حدود مملكتهم في المناطق الجنوبية وعادت الحدود القديمة إلى سابق عهدها في زمن الملك يربعام الثاني الذي اصبح ملكاً في السامرة في عام 785 وزاد هذا الملك على ذلك بأنَّه بدأ بمهاجمة دمشق وحماة.
غير أنّ الخطر الحقيقي كان مصدره من جانب آخر فقد كانت القوة العسكرية الآشورية جاهزة للزحف من جديد وأتت الفرصة المناسبة في 734 حين هدد آحاز ملك يهوذا بصورة جدية من قبل فقح ملك اسرائيل ورصين ملك دمشق فطلب تدخل الآشوريين واستجاب تغلات فلاسر الثالث لطلبه واجتاح المقاطعات الست عشرة التابعة لدمشق مع المدن التي عددها 591 مدينة “وهدمها حتى اصبحت مثل الكثبان التي يتركها السيل” وكان بين الملوك التابعين لآشور والذين حاربوا وسقطوا امام اسوار دمشق بنامو الثاني ملك شمأل (زنجرلي) في اقصى الشمال ورصين نفسه هرب “و كفأرة [او وعلٍ؟] دخل باب مدينته”. وهناك اصبح محاصرا “مثل عصفورٍ في قفص”. ولكن الحصار استمر. واخيرا فتحت المدينة في عام 732 وقتل ملكها وقطعت اشجار بساتينها – موضع فخارها في جميع العصور – “ولم تنج واحدة منها” ونفي اهلها وهكذا انتهى امر آرام دمشق وانتهت معها السيادة االآرامية الى الأبد.
التجار الآراميون
فاق توسع التجارة والحضارة الآرامية توسع الآراميين السياسي والعسكري ودام إلى ما بعد إنتهاء هذا الاخير هذا الحضارة التي بلغت ذروتها في القرنين التاسع والثامن لا تقدر اليوم حقَّ قدرها حتى في الأوساط المتعلّمة والسوريون الحديثون لا يشعرون باصلهم وتراثهم الآراميين بالرغم من أنّ كثيرين من اللبنانيين يصرون على أصلهم الفينيقي وكان التجار الآراميون يبعثون قوافلهم إلى جميع مناطق الهلال الخصيب وحتى منابع الدجلة في الشمال واكتشفت في خرائب نينوي بعض الموازين البرونزية التي تركوها وكانوا يحتكرون تجارة سورية الداخلية كما كان يحتكر ابناء عمهم ومنافسوهم الكنعانيون التجارة البحرية وكانت عاصمتهم دمشق ميناء البادية كما كانت جبيل ثم صور من موانىء البحر وقد تاجر الآراميون بالارجوان من فينيقية وبالمطرزات والكتان واليشب والنحاس والابنوس والعاج من افريقيا “وبمحصول البحار” الذي ربما كان اللؤلؤ الذي اشتهر به الخليج الفارسي خلال العصور.
اللغة االآرامية
كان التجار الآراميون هم الذين نشروا لغتهم منذ اول عهدهم في مختلف البلدان وهي فرع من مجموعة اللغات السامية الشمالية الغربية وقد وصلنا من عام 731 ق.م في عهد تغلات فلاسر الثالث اول رسم يمثل كاتباً يدوّن باالآرامية الغنائم المأخوذة من احدى المدن المفتوحة وهو يمسك بيده ليس قلماً ولوحاً من طين لأجل الكتابة المسمارية وانما ملف بردي وريشة ويبدو انه كان يكتب بكتابة ابجدية وفي نحو عام 5.. ق.م اصبحت الآرامية التي كانت اللغة التجارية لاحدى الجماعات السورية ليس فقط اللغة العامة للتجارة والحضارة والحكومة في بلاد الهلال الخصيب كلها بل اللغة التي يستعملها سكان تلك البلاد في كلامهم وكان فوزها على شقيقاتها اللغات السامية الاخرى بما فيها العبرية تاماً. واصبحت لغة المسيح وشعبه والاشارة الثانية إن لم تكن الأولى للمسيحيين وجدت مكتوبة بالآرامية بحروف لاتينية مشوّهة على جدار مسكن ربما كان كنيسة في بومبي مما يجعل تاريخها قبل عام 379 م .
وهنالك صلاة آرامية تسمى “قديش” (المقدس) تشبه الصلاة المسيحية المعروفة بالصلاة الربّانية في بعض عباراتها وهي أقدم منها وتبدأ بعبارة “ليتمجد ويتقدس اسمه العظيم”. واسطورة احيقار الواسعة الانتشار تحوي بعض حكم آشورية او بابلية ولكنها بالآرامية وقد كتبت في القرن السابع او ما بعده.
ولم يقتصر انتشار االآرامية على المناطق السامية ففي عهد داريوس الكبير (521 – 486) جعلت الآرامية اللغة الرسمية بين مقاطعات الامبراطورية الفارسية وهكذا اصبحت حتى فتوحات الاسكندر اللغة المتداولة في امبراطورية تمتد “من الهند حتى الحبشة”. إنَّ مثل هذا الفوز الذي حققته لغة لا تدعمها سلطة امبراطورية من أهلها ليس له مثيل في التاريخ.
ومع انتشار اللغة الآرامية انتشرت الأبجدية الفينيقية التي كان الآراميون اول من اقتبسها واستعملت في لغات اخرى في القارة الاسيوية وحصل العبرانيون على ابجديتهم من الآراميين بين القرنين السادس والرابع وكانوا قبلاً يستعملون الأبجدية الفينيقية القديمة مدة من الزمن ، والحروف المربعة التي تطبع بها اليوم كتب التوراة العبرانية نشأت من الكتابة الآرامية ، واخذ عرب الشمال ابجديتهم التي كتب بها القرآن من الآرامية التي استعملها الانباط ، كذلك حصل الأرمن والفرس والهنود على ابجديتهم من مصادر آرامية ، وحروف البهلوية والسنسكريتية هي من اصل آرامي ، وحمل الكهنة البوذيون من الهند الأبجدية السنسكريتية إلى قلب الصين وكوريا . وهكذا وصلت الحروف الفينيقية شرقاً بطريق الآرامية إلى الشرق الاقصى وغرباً بطريق اليونانية إلى الاميريكتين مطوِّقة العالم كله.
الكتابات الاثرية
وجدت اقدم الكتابات الاثرية الآرامية المعروفة اليوم في شمالي سورية وتعود إلى بدء القرن التاسع. وتوجد بينها كتابة قصيرة من تل حلف (غوزانه) ثم تأتي كتابة اكتشفت حديثاً على نصب نذري على بعد أربعة أميال ونصف شمالي حلب التي كانت تحت حكم دمشق وترجع إلى نحو عام 85. ق.م وقد كتب عليها اسم بنحدد الاول والكتابة التالية:
“النصب الذي اقامه بار حدد ابن طاب رمان ابن حاديان ملك آرام لسيده ملقارت وقد نذره له لأنه أصغى الى صوته.”
وعلى ذلك فإنّ كتابة زاكر ملك حماة ولعش المشهورة (نحو 775) التي كانت تعتبر اقدم كتابة آرامية اصبحت في الدرجة الثالثة في قدمها . وقد اقيم نصب زاكر من قبل هذا الملك الآرامي لتخليد ذكرى انقاذه من هجوم شنَّه عليه سبعة عشر ملكاً بينهم ملوك دمشق وشمأل وعدد من المدن الفينيقية .
واتت كتابات اثرية اخرى تركها الآراميون من زنجرلي (شمأل) وهي مدينتهم الرئيسية في الشمال. وفيما سوى هذه الكتابات على النصب والمباني فان هنالك اوزاناً ومستندات كثيرة عليها كتابات آرامية تترواح بين القرن الثامن والقرن الخامس ق.م واوراق البردي الآرامية التي كتبتها جالية يهودية في مصر العليا واكتشفت في الالفنتين (جزيرة اسوان الحديثة) ترجع الى ما بين 5.. و 4.. ق.م.
وقد تفرعت اللغة الآرامية مع الزمن الى مجموعتين هما المجموعة الشرقية في وادي الفرات وتمثلها المندعية والسريانية والمجموعة الغربية وتمثلها الآرامية التوراتية والترجوم ولهجات شمأل وحماة والتدمرية والنبطية. وكانت تتكلم المندعية طائفة غنوسطية تسكن قرب الفرات بين القرنين السابع والتاسع م. واصبحت السريانية وهي لغة اديسا (الرها) لغة الكنائس في سورية ولبنان وبلاد الرافدين مع بعض الاختلافات المحلية، واستعملت بين القرنين الثالث عشر للميلاد ثم حلت العـربية محلها. وعندما اتخذ المسيحيون الآراميون لهجة اديسا وجعلوها لغة الكنيسة والادب والتعامل الثقافي صاروا يُعرفون باسم سوريين واصبح لاسمهم القديم أي الآراميين مدلول وثني غير مستحب في عقولهم ولذلك تجنبوه بوجه العموم وحلت محله التعابير اليونانية وهي سوري بالنسبة للشعب وسرياني بالنسبة للغة. ولنذكر أنّ اليونان كانوا يسمون بلاد آرام “سورية” .
وكثيرا ما يسمى سكان البلاد سوريين ولغتهم سورية في الترجمة السبعينية للتوراة وكذلك في الترجمة اللاتينية الشائعة وفي التعبير الحديث تقتصر كلمة “سريانية” على لهجات اديسا والمناطق المجاورة.
الحضارة المادية
اقتبس الآراميون الحضارة المادية للشعب الذي سكنوا بين ظهرانيه . ففي شمالي سورية اصبحوا ورثاء ومتابعين لعمل الحضارة الحثية الآشورية وفي سورية الوسطى ورثوا الحضارة الكنعانية وتابعوها . واتخذت عاصمتهم شمأل في الشمال الغربي مظهر مدينة حثية ولكن ملوكها كانوا يتسمون باسماء آرامية على الغالب وتركوا كتابات اثرية بحروف فينيقية وكانت هذه المدينة من المدن الآرامية النادرة التي جرت فيها حفريات اثرية.
وقد قام احد ملوك شمأل واسمه بنامو الاول الذي عاش في النصف الاول القرن الثامن تمثالا ضخما للإله حدد ارتفاعه تسعة أقدام ونصف ظهر فيه الإله بقبعة ذات قرنين ولحية مستديرة مجعدة وعينين منزلتين بالحجارة الكريمة وذراعين ممتدتين لاعطاء البركة وتقول الكتابة التي تحت زنار التمثال أنّ همَّ الملك الاكبر كان سعادة شعبه. ويذكر أنّ الارض التي منحته اياها الآلهة المحسنة كانت “ارض شعير وقمح وثوم ويعمل الرجال في حرث تربتها وزرع كرومها وهنالك تمثال تذكاري لبنامو الثاني (73م) اقيم غالبا فوق ضريحه من قبل ابنه ويقول:
“وفي ايام ابي بنامو حاملين للكؤوس وسائقي مركبات” وبذلك زاد في فخامة البلاط الملكي.
ويظهر شكل ابن بنامو الثاني واسمه بار ركاب منحوتا بشكل بارز على عرش محفور حفراً فخماً في الابنوس والعاج والذهب ولا يقلّ ابهة عن عرش سيده ملك اشور. ويرتكز العرش على مخروطيات الأرز وفي زوايا المقعد الأربعة رؤوس ثيران وتحت قدميه يوجد كرسي بمثل هذه الزخارف الفنية. وثوبه الطويل ذو الحواشي وقبعته المروسة من النوع الحثي ، أما لحيته وتجاعيد شعره فانها تتبع الاسلوب الآشوري.
حدد الراعد
والإله الذي كان يوجه الآراميون اعظم اهتمام لعبادته كان حدد إله الزوابع والرعد ويسمى ايضاً أدد أو أدو . وكإله للبرق والرعد كان حدد مفيداً حين يرسل المطر الذي يخصب الارض وكان مضراً حين يرسل السيول ومن القابه ريمون (الراعد) وكان نعمان السوري يسمى اله سيده ملك دمشق بهذا اللقب. وكان الإسمان يستعملان معاًَ احياناً فيقال حدد ريمون ويظهر في نحت بارز من زنجرلي حاملًا الشوكة ذات القضبان الثلاثة والمطرقة رمز البرق والرعد. وفي ملاطية يبدو في شكل منحوت واقفاً على ظهر ثور وهذا رمز القوى المولدة وكان أهم معبد للإله حدد في هيرابولس (منبج) ولكن له معابد في مدن سورية اخرى كثيرة وفي لبنان وكان محبوباً بصورة خاصة بين المزارعين في سورية وامتزجت عبادته فيما بعد بعبادة الشمس وزخرف رأسه عند ذلك بالاشعة كما في بعلبك وفي الغالب يجب اعتبار جوبيتر هليوبوليتانس الذي عبد في بعلبك معادلًا للإله حدد وفي العصر الروماني تبدَّل اسمه فاصبح جوبيتر الدمشقي.
وقد أمر بنامو الأول ابنه في الكتابة التي تركها على تمثال حدد أن يتلو العبارة الآتية عندما يقدم الذبائح: “لتأكل روح بنامو مع حدد ولتشرب روحه مع حدد ولتفرح بالتقدمة لحدد” ويعطينا ذلك فكرة طريفة عن فكرة الآراميين القدماء في الحياة الآخرة . وعرف الآراميون بعادة تسمية ابنائهم “بار حدد” أي ابن حدد او ابن آلهة اخرى محببة لديهم. وبقيت هذه العادة شائعة في سورية حتى العصر المسيحي وتلقي ضوءاً مفيداً على العلاقة المفترضة بين الإله والذي يعبده.
اتارغاتس
وعبدت رفيقة حدد او زوجته وهي الاهة توالد في هيرابولس وفي مراكز سامية اخرى باسم اتارغاتس وكان اليونان والرومان يبسِّطون الامر فيسمونها “الالهة السورية”. وقد اتانا وصف لعبادتها من العصر الكلاسيكي كتبه لوكيانس وهو سوري من سمياط وُلِدَ حوالي 125م. وكان يكتب باليونانية وصفات عبادتها كما كتب عنها لوكيانس هي صفات الالهة الأم السامية وفي النقود التي اتت من هيرابولس نراها تلبس تاجاً ويصحبها أسد احياناً . ويتألف رمزها من الهلال مع قرص الشمس . وكان لها معبد في كرنيون في جلعاد . وكانت عسقلان في فلسطين مركزا لعبادتها حيث اعتبرت غالباً معادلة لافروديت.
وانتشرت عبادة اتارغاتس بين اليونان في العصر السلوقي وبواسطتهم وصلت إلى روما حيث اقيم معبد باسمها. وتشاهد في الآثار الرومانية جالسة على عرش بين اسدين. وكان كهنتها عموماً من الخصيان الذين اعتادوا القيام برحلات إلى اليونان وايطاليا لنشر عبادتها بواسطة التنبؤات والرقص الروحاني ولجمع تبرعات الاتقياء لأجل معبدها في هيرابولس.
وهنالك نموذج غريب لاتارغاتس على النقود من هيرابولس تظهر محجبة . ووجدت صور اخرى كثيرة لاتارغاتس المحجبة . وتظهر رسوم نساء محجبات بحجاب ثقيل يشبه حجاب أي مسلمة محافظة اليوم على نقش من معبد بعل في تدمر وفي لوح منحوت من دورا اوربس وترينا بعض الآثار الاخرى الرأس محجبا . ويبدو ان الحجاب كان في الشرق القديم رمز المتزوجة ولباسها المفروض.
وكان التشريع الآشوري من منتصف الالف الثاني ق.م يتطلب من نساء الرجال الأحرار وبناتهم أن يغطين رؤوسهن حين يخرجن إلى الشارع . وكانت مجموعة الآلهة الآرامية تضم فيما سوى الزوج الالهي حدد واتارغاتس عدداً من الآلهة الاخرى ذات المكانة الثانوية بعضها محلي والبعض الآخر مستعار من الامم المجاورة وكانت الآلهة حدد وايل وركاب ايل وشمش ورشوف هي التي أعطت الملك بنامو الاول الصولجان في الكتابة الاثرية التي تركها ومنحته الاشياء التي صلّى لاجلها وركاب او سائق المركبات هو إله مستورد إلى سورية مع إله الشمس الآشوري وشمش الآشوري هو اسم إله الشمس الذي يعبد في العالم السامي كله . ورشوف هو الإله الفينيقي رشف الذي كان كثيراً ما يمثل بشكل جندي مسلح وفي كتابة زاكر ملك حماة يرفع هذا الملك يديه لبعل شمين (سيد السموات) ويقول : “كل من يمحوا اسم زاكر ملك حماة ولعش من هذا النصب أو يخربه من امام ايل وير Ei Werأو يزيله من مكانه أو يمدُّ يده ضدَّه… فان بعل شمين وايل وير وشمش وسهر وآلهة السماء وآلهة الارض… ستهلكه”. ويتضّح أنّ بعل شمين هو حدد ولكن هوية ايل وير لم تعرف بعد. وسهر هو الاله القمر.
وكانت حرّان مركز الاله القمر الذي يسمى سين عند الاشوريين. ويرد ذكر هذا الإله على حجر تيماء التي ترجع كتابتها الى القرن الخامس ق.م باسم شنغالا وهو اسم آشوري مستورد معناه سين العظيم والإلهان الآخران المذكوران على هذا الحجر هما سلم (بمعنى صورة او تمثال) ويشير غالباً إلى بعل المحلي، وعاشرة.
* من كتاب “تاريخ سورية ولبنان وفلسطين” – الدكتور فيليب حتي