إن ميزة من ميزات الحياة الثقافية والحركة الفكرية في القرون الأولى للدولة العربية كان اللقاء الحر بين الأديان المختلفة ولا سيما لقاء الفكر الإسلامي مع الفكر المسيحي في دمشق (في القرن الثاني ه) وفي بغداد (في القرن الثالث ه). واستفاد كلاهما من هذا اللقاء في المجالات المختلفة من الفكر الديني، فائدة قصوى. وكان هنالك شخصيتان بارزتان تمثلان الفكر اللاهوتي المسيحي في هذا الحوار، وهما يوحنا الدمشقي (54-127ه) وثاودورس أبو قُرَّة (128-203ه).(1) وبينما كان يوحنا الدمشقي مفكراً مسيحياً يكتب باللغة الإغريقية، نلقى في شخصية ثاودورس أبي قرة أول مفكر مسيحي عربي يتناول القضايا اللاهوتية باللغة العربية. غير أن أهميته لا تنحصر في ذلك وإنما هو من رواد ترجمة مؤلفات أرسطو إلى اللغة العربية(2) فمكنته ألفَتُه لفكر أرسطو من الاستعانة بمناهج جديدة في معالجة القضايا اللاهوتية لم يسبقه إلى استعمالها غيره من المفكرين العرب. ولما كان هو من ذلك الجيل الذي بلغ اللغة العربية ذروة ازدهارها وقمة ازدهائها، فقد كانت دراسة مؤلفاته بالغة الأهمية للغة العربية اللاهوتية في الوقت الحاضر. ونظريته في المعرفة تطلعنا أكثر من أي شيء آخر على منهجه اللاهوتي وطرقه في التفكير، وفضلاً عن ذلك نتلمس من خلالها تفاعله مع الحركة الفكرية في عصره، هذه الحركة التي كان يغلب عليها طابع المعتزلة فنتبين في مؤلفاته نوعاً من رد الفعل على الفكر الاعتزالي.
ولا نلقى في مؤلفات ثاودورس أبي قرة نظرية جاهزة مفصلة للمعرفة ولا بيان مناهج الفكر اللاهوتي وإنما نلمس أفكاراً متناثرة وملاحظات مبعثرة في نصوص مختلفة حول منهجه ومقدماته الفلسفية. وكثيراً ما ينبغي للباحث أن يستدل على منهجه باستعماله للمصطلحات أو ببنية مؤلفاته أو تركيبها لعدم توسعه في الحديث عن مقدماته الفلسفية والمنهجية. إنه يمارس المنهج أكثر مما هو يكتب نظرية المنهج. وهذا أمر طبيعي. ذلك أن الصيغة الأدبية الخاصة بمؤلفاته ليست البيان الفلسفي وإنما الأطروحة الجدلية التي تنصب على إقناع الخصوم عن طريق هدم آرائهم ومواقفهم. وهذه الصيغة الأدبية التي تصاغ أحياناً صياغة الرسالة لا تتحمل أسلوب البيان العلمي أو الفلسفي الذي يليق بالمواضيع النظرية وإنما يتطلب سهولة الكلام لاجتذاب اهتمام المستمعين.
ونحن إنما نعتمد في هذا البحث على مؤلفات أبي قرة العربية فقط(3). وذلك لأن دراسة النصوص الأغريقية التي وردت باسمه والمقارنة بينها وبين مؤلفاته العربية تعرض البحث لمسائل تؤلف بحد ذاتها بحثاً مستقلاً يخرج عن برنامجنا في هذا المقال.
المعرفة حركة:
يضمّن أبو قرة (الميمر في موت المسيح) مقدمة نظرية يتناول فيها مبدأه المنهجي في معالجة رأيه في المسيح(4)، وتتضمن هذه المقدمة القصيرة نظرية للمعرفة.
ويصف المؤلف المعرفة بأنها حركة خاصة بالعقل تفضي من خلال تضادات إلى العلم بحقيقة الأشياء. وتشتمل حركة المعرفة على حركتين جزئيتين أولاهما “حركة العقل…… أن يرجع من صفة إلى خلافها بأن تميز أنحاء الشيء كلها فستقريها نحواً نحواً ثم يوقع على ذلك الشيء من الصفات وإن تضادّت ما يكون له مستحقاً في كل واحد من أنحائه فيرتفع عنه مستقرياً له محرراً لمعرفته” (ص 94-). وفي نص آخر له يذكر: “تمييز أنحاء الشيء وتجريد كل واحد منها” عن طريق النظر في الصفات المختلفة (ص 48-) أما الحركة الجزئية الثانية فهي “إرجاع الصفة إلى المخالفة وضمهما معاً…… وجمع كل صفات الشيء” (ص 48-).
نتبين في هذا الوصف لحركة المعرفة مرحلتين متتابعتين مترابطتين وهما (التحليل) و(التركيب). وتؤدي هذه الحركة الذهنية إلى معرفة حقيقة الشيء. ويوصف (التحليل) بأنه (تمييز أنحاء الشيء) و(استقراء الشيء نحواً نحواً) عن طريق (إصابة صفة في نحو… وإصابة صفة تخالف الأولى في نحو آخر) (ص 48-). فترمي عملية التحليل في رأي المؤلف إلى استخلاص الصفات المتضادة في الشيء المدروس إبرازاً لأنحائه المختلفة، وتظهر هذه الصفات المتضادة في تضاد الحديث عن ذلك الشيء. أما عملية (التركيب) فهي “جمع الصفات كلها في وحدية الشيء…… ارتفاعاً عن التضاد”. وتهدف هذه العملية الذهنية إلى ترتيب هذه العناصر المختلفة المتضادة في صورة ذهنية وهذه الصورة الذهنية إنما هي معرفة حقيقة الشيء.
هذا وإذا نظرنا في المصطلحات التي يستعملها النص نعثر على زوجين متطابقين من الحدود ذات الدلالة الخاصة وهما (الخلاف) القائم بين (أنحاء) الشيء المدروس و(التضاد) القائم بين (الصفات). فنتبين في هذين الزوجين من المصطلحات ناحيتين من حركة المعرفة ألا وهما (واقع) الشيء في أنحائه المختلفة و(الصورة الذهنية) لهذا الشيء نفسه في صفاته المتضادة. هذا على مستوى (التحليل). أما على مستوى (التركيب) فنلاحظ التمييز ذاته بين ناحيتي حركة المعرفة، فإن (وحدية) الشيء الحقيقية تقابل (جمع الصفات كلها) في المعرفة. فينكشف عن هذا الاستعمال الدقيق للمصطلحات نظرية واقعية للمعرفة تميز بين واقع الشيء وبين واقع المعرفة بوصفها ظاهرة ذهنية تكتشف في الصفات، الواقع، وتعبر عنه في اللغة. أما مصطلح (الصفة) فبالغ الأهمية في نظرية المعرفة هذه فإن المعرفة إنما هي (علم بالصفات). ومعنى هذا أن المؤلف يحسب الصفة تصيب وتدرك واقع الشيء أو بالأحرى فالصفة بوصفها صورة ذهنية تطابق واقع الشيء. إن استعمال المصطلحات الدقيق يكشف عن بنية المعرفة في فكر أبي قرة وهذه (البنية الثلاثية) للمعرفة أساس منهج أبي قرة اللاهوتي.
هذا ونجد في (الميمر على سبيل معرفة الله(5) نصاً يمكننا من استنباط بنية المعرفة في رأي أبي قرة وتوضيحها. فيقول النص: “إنما عرفنا الله إما من صفته (التي وصف بها نفسه) لنا، وإما من أنّا اهتدينا إليه بخلائقه التي (تدرّبتها) عقولنا. فمن كلا القولين يلزم لا محالة أن تكون الخلائق تشبه الله في بعض حالاتها، لأن الله لو وصف لنا نفسه بما لم نرَ شبيهاً له لما كان لصفته موقع في عقولنا ولا كنا نتوهمها أصلاً، وما كانت غاية ما ندينه به إلا الكلام ولفظ ينطق به على غير معنى العقل.” إن القارئ يلقى في هذا النص ثلاثة حدود تدل على ثلاثة أبعاد في الصفة وهي “الصفة التي بها وصف الله نفسه” ثم “موقع الصفة في عقولنا” وأخيراً “الكلام ولفظ ينطق به على غير معنى العقل”. وأما الأبعاد الثلاثة فهي واقع الصفة في الله والإنسان، ثم المفهوم العام الذي يدل على واقع الصفة، أي الصفة بوصفها صورة ذهنية للواقع، وأخيراً الصفة من حيث تتجلى في ألفاظ اللغة. ها هي ذي بنية المعرفة الثلاثية: الواقع، والمفهوم، والحدّ. ومعنى هذا أن اللغة تعبر عن الفكر الذي بدوره يعكس الواقع. ذلك أن التفاهم بين المتحدث والمستمع يقتضي تطابق اللغة والفكر وكذلك تطابق الفكر والواقع، فاللغة تحمل الواقع أي حقيقة الصفات من حيث له “موقع في العقل”.
نرى أن اللغة في رأي أبي قرة أداة تؤدي وظيفة وهي نقل المعاني أي تبليغ البشارة: إن اللغة أداة التعبير لا أكثر ولا أقل. ونرى كذلك أن اللغة بوصفها أداة التعبير عن الفكر تتميز عن الفكر تميزاً واضحاً. وهذا التمييز يمكن المؤلف من وضع منهج لاهوتي جديد وتطبيقه على قضية الصفات الإلهية كما سنرى في قسم لاحق من هذه الدراسة. إن هذه البنية الثلاثية للمعرفة تتأصل في نهاية الأمر في النظرية الواقعية للمعرفة. وهذا الإلحاح على واقعية المعرفة ذو بال كبير في سياق تطور الفكر العربي في آخر القرن الثاني ه وفي مطلع القرن الثالث ه.
إن وصف المعرفة بأنها “حركة الارتفاع” أمر مهم يتيح لنا أن نربط بين نظرية أبي قرة للمعرفة ومنهجه اللاهوتي مكتشفين وحدة هذه النظرية. ونجد في ميمره المعنون ب”رسالة في إجابة كتبها…… إلى صديق له كان يعقوبياً فصار أرثوذكسياً عند رده عليه الجواب” النص التالي(6): “ومنطق النفس أيضاً ومنطق الإنسان ليس بسواء لأن منطق تلك أنها مبرَّأة من الأوهام غير الجسدانية… وأما منطق الإنسان فإن أول مشاكلته الصور الهيلانية. ومن تمثيل ما يرى يرتفع بسبيل مختلفها(!). وإذا استقصى الإنسان جهده فإنه لا يقدر ولا يطيق البتة أن يذوق بحس العقل العنصري غير الجسداني، ولكنه إنما يستدل عليه إما من آثار فعله، وإما من أشياء……، أو أنه يتوهمه على خلاف حال الأجساد. فقد عرف الإنسان في كل حالاته أنه غير النفس وشتان ما بينه وبينها، وإن كان قد أشبهها في بعض حروف حده على حال اتفاق الأسماء.” يكشف هذا النص أمراً يهمنا في هذا السياق وهو وصف المعرفة بأنها “ارتفاع الإنسان من الصور الهيلانية إلى العقل العنصري بسبيل مختلفها” من غير أن يصل إلى تلك القمة. وذلك لأن الخلاف لا يفنى في الشبه. ويبدو كأن أبا قرة يتمثل حركة المعرفة الارتفاعية على شكل القطع الزائد الذي يتقارب جزءاه تقارباً لا متناهياً من غير أن يتلاقيا.
إن حركة المعرفة الارتفاعية على سبيل الشبه والخلاف إنما هو منهج المماثلة الذي سوف نتحدث عنه بتفصيل فيما بعد. المهم في هذا السياق أن أبا قرة يرى حركة المعرفة في منهج المماثلة بوصفها ارتفاعاً من الواقع الحسي المعروف إلى الواقع العقلي غير المعروف. ويصف نصنا هذه الحركة بأنها “استدلال على العقل العنصري من آثار فعله”. وهذا أمر جدير بالذكر بمقدار ما سنرى أبا قرة يصف منهج المماثلة بأنه استدلال بالمعروف على المجهول. إن وصف حركة المعرفة بأنها ارتفاع يكشف لنا عن وحدة النظرية والمنهج في فكر أبي قرة.
العام والخاص. مشكلة الوحدة والكثرة:
هذا ومقدمة (الميمر في موت المسيح) تتيح لنا إيضاح ناحية أخرى من نواحي نظرية المعرفة عند أبي قرة لا تقل أهمية عما سبق لنا الحديث فيه. ذلك أن هذا القسم من النص وهو يشكل وحدة إفادية، إنما يقوم هيكله على التعارض بين (معرفة الأنحاء) التي تؤدي إلى التضاد وبين (معرفة كافة أنحاء الشيء في وحديتها) التي هي معرفة الحقيقة فتسمى (ارتفاعاً) و(تحريراً). إنه التعارض بين معرفة (ما هو عام) وبين معرفة (ما هو خاص). والعام هو الكلي، والخاص هو الجزئي والمشخص. ويتضمن هذا التعارض التضايق بين الكثرة والتضاد من جهة، والتضايق بين الوحدة والحقيقة من جهة أخرى. معنى هذا أن المؤلف يعتبر المعرفة العامة الكلية المجردة المعرفة الحقة، رغم أنه يتضح من سياق النص أنه يقيم وزناً كبيراً للتضاد والمعرفة الخاصة المشخصة كمرحلة تمهيدية ضرورية لمعرفة الحقيقة. فإن معرفة ما هو عام تستدعي معرفة ما هو خاص. وذلك لأن المعرفة الكلية تجمع المعارف الجزئية.
ونلقى التعارض نفسه أكثر وضوحاً وأكثر صراحة في نص آخر في (الميمر عن الثالوث)(7) فقد تعرض فيه أبو قرة لقضية (الاسم الدليل على الوجه) و(الاسم الدليل على الطبيعة). أما (الاسم الدليل على الوجه) فهو يعنى أفراداً كثيرة تشترك في طبيعة واحدة أي تتسم بذات المجموعة من الصفات وهو (اسم منطقي). وأما (الاسم الدليل على الطبيعة) فالمقصود به الوحدة الرابطة بين الأفراد الكثيرة، أي المجموعة من الصفات، وهو (اسم ثابت عام). ففرد من الأفراد المشاركة في طبيعة ما لا يستوفي الطبيعة كاملة ولا هو واقعي إلا بمقدار مشاركته في الطبيعة.
إن هذا النص وهو يشكل وحدة إفادية إنما يقوم هيكله على التعارض بين وحدة الطبيعة وكثرة الوجوه من جهة، وعلى التعارض بين الاسم المنطقي والاسم الثابت العام من جهة أخرى ويحتوي هذا التعارض على التضايف بين الاسم المنطقي والكثرة من جهة والتضايف بين الاسم الثابت العام والوحدة من جهة أخرى.(8)
لقد تبين مما سبق أن أبا قرة يربط (الكثرة) التي لا يُقرّ لها إلا بوجود منطقي (بالتضاد)، ويربط كذلك (الوحدة) (بالواقع) و(الحقيقة) ويمكننا أن نتبين في تداعي الأفكار هذا، البنية الأساسية لفكر أبي قرة. ذلك أنه ينكشف عن تداعي الأفكار هذا أمران أولهما نظرية معينة للمعرفة ترى في المفهوم العام المجرد أي الفكرة الكلية الشاملة المعرفة الحقيقية، رغم أنها تتمثل تضادات المفاهيم الخاصة في حركة المعرفة تعدّها مرحلة تمهيدية لهذه الحركة. وتترتب هذه النظرية للمعرفة على الرؤية الواقعية للصفة. أما (الصفة) فتساوي على ما يبدو المفهوم العام أو ما يسمى (بالكليات المعروفة) في الفلسفة الأوروبية المتوسطة. هذا ويكمن في نظرية المعرفة هذه رؤية أنطولوجية تعتبر وحدة (ما هو عام) الحقيقة والوجود الحق، في حين أنها لا تقر لكثرة (ما هو خاص) إلا بوجود منطقي. إن هذه الرؤية الأنطولوجية تعجز عن تمثل ظاهرة الكثرة فكرياً فترفضها حاسبة إياها مناقضة للواقع.
لقد استعرضنا نصين يدور كل منهما حول قضية العلاقات بين العام والخاص على صعيدي الواقع والمعرفة. ورأينا أن الأساس الفكري في كلا النصين هو النظرية الواقعية للمعرفة، فإن المعرفة تدرك وتصيب حقيقة الأشياء. إن هذه النظرية الواقعية هي الموقف الأساسي من المعرفة عند أبي قرة فهو يقول بأن الحدود والمفاهيم العامة والمصطلحات تطابق الواقع. على أنه يتطرق إلى هذه المسألة من وجهتي نظر مختلفتين، فإنه ينسب، في النص عن مسألة الكثرة والوحدة، الوجود الخاص المشخص إلى الوجود العام المجرد الذي يعتبره واقعاً وحقاً، بينما يعد معرفة ما هو عام نتيجة ما هو خاص في النص عن المعرفة. وذلك لأنه يطرح قضية العام والخاص في كل من النصين على مستوى آخر فيتحرك في الأول على مستوى الأنطولوجية وفي الثاني على مستوى نظرية المعرفة. إن الفرق في وجهتي النظر رهن بالخلاف في نقطتي الانطلاق.
منهج المماثلة:
سبق لنا أن درسنا قضية المعرفة في بعض نصوص ثاودورس أبي قرة من الناحية النظرية واكتشفنا في أساسها وحدة النظرية والمنهج. فينبغي لنا أن نتصدى لدراسة حركة الارتفاع هذه من ناحية المنهج. وذلك لأنه قد أحدث في تاريخ الفكر العربي منهجاً جديداً ألا وهو منهج (المماثلة)(9). فالمماثلة في المنطق صفة المفهوم (أي الفكرة الشاملة العامة) الذي يصدق على كائنات مختلفة أو حقول مختلفة من الوجود بتغير معناه من غير أن يفنى قوام المفهوم ذاته. فليس المفهوم مشتركاً أي ذا معاني متباينة تبايناً تاماً عند اتفاق اللفظ، وليس هو متواطئاً أي ذا نفس المعنى الوحيد في أي سياق وأية جملة كان، وإنما هو مماثل أي يحتفظ بقوام المفهوم ذاته عند التغير الباطني في معناه حتى إن الهوية والتباين أو الشبه والخلاف يتحدان في قوام المفهوم بغير انفصام. وتتأصل المماثلة المنطقية في المماثلة الحقيقية أي في شبه وخلاف الكائنات. وكما يشمل مفهوم الوجود المماثل المفاهيم العامة كافة، كذلك تتمثل مماثلة الوجود في شبه وخلاف الكائنات(10).
وشرح ابو قرة منهج المماثلة في (الميمر على سبيل معرفة الله)(11). ويقدم ثلاثة سبل وهي (سبيل الأثر) و(سبيل الشبه) و(سبيل الخلاف). ونلقى في (سبيل الأثر) البرهان على وجود الله من مبدأ العِليّة كما ساق أرسطو هذا البرهان في كتاب (ما بعد الطبيعة)(12). أما (سبيل الشبه) و(سبيل الخلاف) فيشكلان منهجاً واحداً متساوقين في وحدة منهجية متماسكة ف(سبيل الشبه) إنما هو تطبيق صفات الخلق على الخالق أي وصف الإله بصفات البشر “فقد يقول كل واحد إن الله حي سميع بصير حكيم قوي عدل جواد وما شاكل ذلك، وهذا كله قد نراه فينا وعندنا” (ص 78). معنى ذلك أن سبيل الشبه مبني على فكرة اتفاق الصفات في الإله والإنسان. أما (سبيل الخلاف) “ففيه نوقف العقل على حد التشبيه” (ص 79). ذلك أننا “نقول إن الله حي والإنسان حي، وأن الإنسان يشبه الله في أنه حي، فإذا ذهبنا ننظر في هذا علمنا أن حياة الإنسان لها بدء وأنها لا تزال تتنقل في تغيير الحالات حتى تفضي إلى البلى والهلاك، ونعلم أن الله حي على خلاف هذا كله، أي أنه لا بدء له ولا منتهى، ولا يتغير، أو تعرض له آفة أو أذى.” (ص 80). ومبني هذا المنهج أو (السبيل) على تبيين وإبراز الخلاف القائم بين الإله والإنسان في صفاتهما المشتركة. هذا وإذا نُهج أحد السبيلين بمعزل عن الآخر فقد اختل منطق المنهج. وذلك لأن (سبيل الخلاف) يقتضي (سبيل الشبه) بالضرورة. إذ لا خلاف إلا عند الاتفاق. وكذلك يؤدي (سبيل الشبه) إلى الاتفاق التام المتكامل بين الطرفين من غير (سبيل الخلاف)، إن الخلاف يكمن في الاتفاق والاتفاق يكمن في الخلاف، فالاثنان يشكلان وحدة جدلية في المنهج.
إن المنهج الموصوف ب(سبيل الشبه) و(سبيل الخلاف) إنما هو (منهج المماثلة) أي منهج الاختلاف في الاتفاق. أما في مجال الفكر الديني فيقوم هذا المنهج في قياس الإلهيات على الإنسانيات، وأساس ذلك الاتفاق القائم بين الدائرتين عند اختلافهما. ويطبق أبو قرة هذا المنهج على قضية خطيرة في الفكر الديني الإسلامي، هي قضية الصفات الإلهية. فمعنى (مماثلة الصفات) هذه أن في حقيقة الإله شيئاً، مثَلُ نسبته إلى ذات الإله كمثل نسبة حياة الإنسان وقدرته وعلمه وغير ذلك إلى ذات الإنسان. هذه هي الفكرة الأساسية الكامنة في حديث أبي قرة عن الشبه والخلاف بين الإله والإنسان، وهذه الفكرة تفترض في نهاية الأمر النظرية الواقعية للمعرفة التي قد رأيناها آنفاً.
إن (الميمر على سبيل معرفة الله) ينهج منهج المماثلة كبرهان استدلالي على وجود الله. ونلقى هذا البرنامج يشكل أكثر منهجية في (الميمر في وجود الخالق والدين القويم)(13). وينطوي هذا الكتاب على قسمين مختلفين في مضمونهما وصيغتهما الأدبية. فالقسم الرئيسي بحث فلسفي لاهوتي في معرفة الله ومنهج معرفته. فقد أدرج أبو قرة في هذا البحث الفلسفي القائم بحد ذاته نقاشاً جدلياً في الدين الحقيقي يحتوي على جدول الأديان والمذاهب المعروفة عصرئذ في الدولة العربية. وهنالك أدلة أدبية (الصياغة الأدبية المختلفة في كل من القسمين) وبنيانية (جدول الأديان والمذاهب يفصم وحدة السياق الفكري)، على أن الأطروحة الفلسفية اللاهوتية كانت قائمة بحد ذاتها. ويؤيد هذه الفكرة المقارنة بين (الميمر في سبيل الله) و(الميمر في وجود الخالق والدين القويم) فيتبين أن الأول يغطي القسم الفلسفي اللاهوتي من ميمرنا هذا. يبدو إذن أن أبا قرة ضمر وثيقتين أدبيتين بعضهما إلى بعض في ميمره هذا.
وقام هيكل الأطروحة الفلسفية المنطقي على المماثلة. وذلك لأن برنامج الميمر وهدفه إنما هو معرفة الخالق من الخلق ومعرفة كمال الله وصفاته من صفات الإنسان عن طريق الاستدلال. وكذلك يستدل بشهوات الإنسان وتطلعه إلى الحياة الجميلة السعيدة على النعيم الكامل. إن منهج المماثلة في رأي أبي قرة استدلال بما يرى على ما لا يرى. وفيما تؤدي المماثلة إلى معرفة صفات الله انطلاقاً من صفات الإنسان (الشبه)، تقود هي أيضاً إلى معرفة خلافهما (بالارتفاع عن طبيعة الإنسان على الخلاف)، ويضرب أبو قرة مثل رجل يرى وجهه في المرآة و”يستدل بما في المرآة على واقع الرجل… ويرتفع عن الشبه… بالخلاف… كذلك نرى في طبيعة الإنسان وفواضله الله من الشبه القائم بينهما إلا أن الله يرتفع عنها بالخلاف” (ص 773). أما الصفات الإلهية التي يتوصل العقل إلى معرفتها عن طريق المماثلة فهي الوجود والحياة والعلم والولادة.
ولا يقف أبو قرة عند معرفة صفات الله ولكنه يتطرق إلى البحث في “كمال النعمة” للإنسان وحياته الأبدية عن طريق الاستدلال بشهواته وميله عن الموت. فإن كل هذا دليل على كمال وجود الإنسان. ويصل أبو قرة إلى أقصى حد فكره بفكرة أن “يصير الإنسان إلهاً” (ص 830). ولا بد أن نفهم هذه الفكرة الشائعة في التصوف المسيحي الشرقي في سياق تفكير أبي قرة المبني على المماثلة. إن فكرة (تأله الإنسان) هي قمة الفكر اللاهوتي الذي نهج منهج المماثلة.
رأينا، فيما تقدم، استعمال أبي قرة لمنهج المماثلة في مجال من مجالات الفكر اللاهوتي. على أنه لم يحصر هذا المنهج في قضية الصفات الإلهية وإنما طبقه على غيرها من المسائل. فقد تطرق في نص آخر له سبق أن درسناه في سياق آخر(14)، إلى مسألة الثالوث. وينهض أبو قرة في هذا النص لشرح قضية تثليث الأقانيم في توحيد الطبيعة الإلهية بالاستناد إلى مثال كثرة الأفراد في الطبيعة الإنسانية الواحدة. ويقول إن مثل علاقات الأشخاص الكثيرة بالطبيعة الإنسانية الواحدة كمثل علاقات الأقانيم الثلاثة بالطبيعة الإلهية الواحدة. ها هو قياس الدائرة الإلهية على الدائرة الإنسانية عن طريق إبراز اتفاق النسب على اختلاف القوام في كل منهما. ومعنى هذا أن في الذات الإلهية شيئاً مثل نسبته إلى الذات كمثل نسبة الأشخاص إلى الطبيعة الإنسانية. ولذلك يسمى الأقنوم باسم الوجه لدخوله في شمول اسم الطبيعة، كما يسمى الشخص باسم الوجه لدخوله في شمول اسم الطبيعة.
ولا نلبث أن نتبين في سياق هذا النص أن (مماثلة الأسماء) هذه تنطبق على مفهوم (الإنسان) كما انطبقت على مفهوم (الصفة)، ذلك أن شخصاً من الأشخاص لا يستوفي الطبيعة البشرية رغم أن كل واحد من الأشخاص يحقق هذه الطبيعة بوصفه إنساناً فيمكننا أن نلقي على كل واحد منهم اسم (إنسان) مع العلم أن أحداً منهم ليس (الإنسان). ومعنى ذلك أن كل شخص إنساني (يشبه) غيره من الناس في الطبيعة الإنسانية و(يختلف) عنه في أحوال هذه الطبيعة وقد تحققت في شخصه. ولذلك يوصف مفهوم (الإنسان) بأنه (مفهوم مماثل)، ويقال كذلك بأن اسم الإنسان ينطبق على كل شخص (بالمماثلة). ومعنى هذا الكلام أن مثل نسبة كل شخص إنساني إلى الطبيعة كمثل غيره من الأشخاص إلى الطبيعة الإنسانية ذاتها. ها هو ذا اتفاق النسب في كائنات مختلفة. ونتبين أن (الإنسانية) في هذا السياق صفة من الصفات يشترك فيها عدد كبير من الأفراد فتشكل الصفة الواحدة (الشبه) عند (خلاف) تحققها الفردي.
هذا ونعثر على مسألة مفهوم الإنسان في سياق مسألة لاهوتية أخرى ألا وهي رأي أبي قرة في المسيح الذي يعالجه في ميمر (رسالة) فقد جعل هو دراسة الطبيعة الإنسانية أساساً لدراسة القضية اللاهوتية، أي أنه نهج في البحث اللاهوتي منهج المماثلة الذي يشكل هيكل ميمره المنطقي. ووصف منهجه في النص التالي (ميامر، ص 127-128): “وحيث أراد عقل الآباء القديسين……… أن يمثلوا(!) ما قد عرف ويمكن أن يعرف من هذا العلم المكنون، بما هو دونه من الأشياء التي ترى، وذلك انحطاطاً لأنه أرفع من عقولهم، فالتمسوا أن يفصلوا هذا الفعل أي هذا الاختصاص وهذه الإضافة من الذي يضاف إلى الشيء وهو منه بائن مفروج. ولم يكن لهم شيء أشد مشاكلة لتحقيق ما يرى من ذلك (من) مثل النفس والجسد. مع أنه ليس في كل شيء يشبهه كما قد ذكرنا. ولكن في الوجوه التي قد بيناها ورسمناها قبلاً مع أنه أرفع وأفضل من تلك الأنحاء المشاكلة من اتصال النفس والجسد……” يمكننا هذا النص أن نقرب إلى منهج أبي قرة من جانب آخر فقد اصطلح هو على مفرد (مثل) تسميته لمنهج ” الآباء القديسين”” اللاهوتي” ويلفت هذا المصطلح الاهتمام بمقدار ما يذكرنا بمصطلح (المماثلة). فيعبر مصطلح (مثل) فعلاً عن جهتي منهجنا أي الشبه والخلاف. ولكن هذا المصطلح يكشف لنا عن ناحية أخرى لمنهج المماثلة عند أبي قرة لم نر مثيلها فيما سبق. ذلك أنه يتخذ المماثلة كما رأينا منهجاً يؤدي به من معروف إلى معرفة المجهول. أما في نصنا هذا فينصب المنهج على “أن يمثل ما قد عرف ويمكن أن يعرف من هذا العلم المكنون بما هو دونه من الأشياء”، فالمماثلة تؤدي وظيفة التعبير عن أمر بغيره. إن منهج المماثلة يرمي إلى فهم وإدراك ما هو معروف من أول الحديث. ولما قام هذا البحث على المماثلة لم يكن بد لأبي قرة من التعمق في (الانطروبولوجية اللاهوتية). فيتوسع في تحليل صفات الطبيعة الإنسانية من حياة وقدرة وعلم ويدقق النظر خاصة في (تركيب الإنسان) أي في (طبيعة الإنسان المركبة من جسد ونفس) توضيحاً وتبييناً للماثلة أي علاقة الشبه والخلاف القائمة بينها وبين اتصال الطبيعتين في شخص المسيح.
استعرضنا بعض نصوص من آثار أبي قرة يطبق فيها منهج المماثلة على قضايا الفكر اللاهوتي، وكشفت لنا هذه الدراسة نمطاً من أنماط الفكر الديني بني على (المماثلة بالنسبة). والمماثلة بالنسبة في أول أمرها تنتمي إلى مجال المنطق فتنطبق على الأسماء. على أن النظرية الواقعية للمعرفة التي اكتشفناها في آثار أبي قرة تبين أن (مماثلة الأسماء) هذه تعبر عن علاقات واقعية في حقيقة الأشياء. ومعنى ذلك أن اسم الإنسان ينطبق على جميع الأفراد لأن هناك مجموعة متجانسة من الصفات والسمات يلقى عليها اسم (الطبيعة الإنسانية). ونسبة كل واحد من الأفراد إلى هذه الطبيعة كنسبة غيره من الأفراد. أو بالأحرى إن وحدة النسب في الأسماء المختلفة التي تتجلى في مماثلة الأسماء إنما هي موجودة حقاً في واقع الإنسان. وإذا أخذنا موقف أبي قرة من مسألة الكثرة والوحدة بعين الاعتبار فقد تحققنا أن المماثلة بالنسبة تفترض، في منطقة على الأقل، (المماثلة بالتناسب) وهي تدل على مشاركة حقيقية من الكثيرين المختلفين بالماهية في صفة ما، ولكن مشاركتهم في الصفة تجيء مختلفة لخلافهم في الماهية(15). وهذا هو الاتفاق في الخلاف. ودليل من الأدلة على تداخل وتشابك المماثلة بالنسبة والمماثلة بالتناسب إنما هو التذبذب الدلالي بين مصطلحي (الاسم) و(الصفة) فإن الاسم يأخذ في بعض الأحيان معنى الصفة.
فهل تظهر المماثلة بالتناسب في آثار أبي قرة وكيف؟ إننا نكتشفها في بنية تفكيره اللاهوتي التي تتجلى في هيكل كتبه المنطقي. (فالميمر على سبيل معرفة الله) بني هيكله المنطقي على المماثلة بالتناسب. ذلك أن أبا قرة يرى في سبيل الشبه وسبيل الخلاف “دلالة على الله” فيدمجها في برهان وجود الله المبني على مبدأ العِلِّيّة حتى إن فكرة العلية تشتمل على المحاج كلها باعتبار أن سبيل الأثر له صدر المحاج(16). ويظهر هذا الهيكل المنطقي بوضوح أكثر في (الميمر في وجود الخالق والدين القويم) الذي يربط صراحة بين المماثلة ومبدأ العلية. والفكرة الخلقية التي تكمن وراء بنية المحاج هذه إنما هي أن العلية والمماثلة مرتبطتان بل إن المماثلة بين الخالق والخلق مبنية على العلية. أو بالأحرى فإن الإنسان يشارك الله في صفاته من حياة وعلم وقدرة وغير ذلك ولكن على قدره ونحوه الإنساني. يرى أبو قرة تمام الوضوح أن المماثلة بالتناسب تتركب، على صعيد المنطق، من المماثلة بالنسبة ومبدأ العلية ولذلك يضم الأولى إلى الثانية في وحدة “الدلالة على الله”.
يعتبر أبو قرة منهج المماثلة أداة للمعرفة أي وسيلة للحصول على علم ما وهو يقصر الوصول إلى معرفة شيء مجهول عن طريق قياسه على شيء معروف. واستعمال المماثلة هذا انتهاك المنهج على الأقل في الفكر اللاهوتي. وهذا أمر بيّن من تعريف المماثلة( سبيل الشبه والخلاف) في حين أن القياس منصب على إبراز الشبه. لذلك لا يستوفي القياس المماثلة بل بالعكس يؤدي إلى أغلاط تفكيرية إذا طغى على التفكير. فقد رأينا أبا قرة يعي هذا الخطر عندما ينتقد منهج مذهب الطبيعة الواحدة. على أنه يقع في الغلط الذي ارتكبه، بعد خمسة قرون، فلاسفة المدرسة الأوروبية الوسطى، معتبرين مماثلة الوجود برهان وجود الله.
جمهور أبي قرة:
لقد رأينا أبا قرة يحدث منهجاً لاهوتياً جديداً في تاريخ الفكر الديني عند العرب وهو يتناول المسائل الكبرى في اللاهوت المسحيي باللغة العربية. فيطرح علينا السؤال من كان جمهور أبي قرة؟ وهو سؤال لا بد لنا من النظر فيه ولو نظرة سريعة. فلمن كتب أطروحاته اللاهوتية باللغة العربية؟ وهذا السؤال مبرر. ذلك أن لغة الثقافة المسيحية الشرقية وناقلة الحركة الفكرية المسيحية في دائرة الخلافة العربية، كانت عصرئذ اللغة السريانية، وإلى حد ما اللغة اليونانية. فقد وردت باسم أبي قرة آثار لاهوتية باللغة اليونانية، ويذكر هو نفسه ثلاثين ميمراً وضعناها باللغة السريانية(17). فما زالت اللغة السريانية تقوم بدور ناقلة الفكر المسيحي والثقافة المسيحية حتى القرن السادس للهجرة وكانت اللغة الدارجة للمجتمعات المسيحية المقيمة بأراضي الدولة العربية حتى القرن الرابع للهجرة(18). إن هذا الأمر وحده يبرر التساؤل عن أولئك المثقفين العرب الذين كانوا يحتاجون إلى مثل هذه الأطروحات اللاهوتية حول المسائل الكبرى للفكر المسيحي، إذ كان من المحتمل بل من الأكيد أن يكون المثقف المسيحي في ذلك العصر قد أجاد إحدى لغتي الثقافة المسيحية. فيمكننا القول بالجملة أن ظاهرة ميامر أبي قرة العربية بحد ذاتها تطرح مسألة الجمهور.
وتبرز مسألة الجمهور بروزاً أكثر وتتضح وضوحاً أشد عند دراسة أسلوب هذه الميامر. ذلك أن القارئ الذي تعود أسلوب الفكر الديني الإسلامي لا يلبث أن يعثر على ألفاظ وعبارات خاصة بلغة هذا الفكر الديني فيتساءل عن وظيفتها في سياق النص. فلنأخذ مثلاً على ذلك نصاً من ميمر (رسالة) (ص 117) وهو نص يختصر فيه بو قرة نقده على رأي مذهب الطبيعة الواحدة في منتهى الشدة وغاية العنف. وقد وردت في هذا النص العبارات التالية: “بإذن الله”، “الافتراء المستوجب لكل غير ذي لب”، “شُبِه” (بالنسبة للمسيح). كل هذه العبرات تختص بلغة القرآن الكريم(19). ويثير تراكم هذه العبارات في نص جدلي قصير أسئلة: أفوقعت هي في الحديث عرضاً؟ أم هي شواهد لثقافة المؤلف اللغوية والدينية؟ أم تؤدي وظيفة ما في سياق النص؟ يبدو لي أن هذه الفرضية الأخيرة صحيحة. وذلك لأن تراكم الألفاظ والعبارات يعارض فكرة العرض، وكل كلمة أو عبارة تقع في حديث الإنسان تنقل معنى واعياً أو غير واع، ولذلك يستوعب الافتراض الثالث غيره.
وإذا أدت هذه العبارات القرآنية وظيفة ما في هذا الحديث اللاهوتي فما هي؟ إنها تحمل دلالة خاصة أي تؤدي وظيفة ال(CODE). ومعنى هذا أن وجود هذه العبارات في نصنا يشير إلى دخول الإسلام في حقل النقاش اللاهوتي على مستوى نية المؤلف الشعورية أو اللاشعورية. ومعنى ذلك أن هناك في هذا المقطع من الميمر (وهو وحدة إفادية) بل في الميمر كله مستويين من الحديث الجدلي وهما (أ-) مستوى الجدل بين المذاهب المسيحية وهو مستوى الحديث الصريح، و(ب-) مستوى الجدل مع الفكر الديني الإسلامي من خلال مجادلة مذهب الطبيعة الواحدة. ودراسة أسلوب أبي قرة يدل على وجود هذين المستويين في حديثه اللاهوتي بأسره.
إن هذه التأملات تقودنا إلى استنتاج أول حول مسألة جمهور أبي قرة. يبدو أنه نوى في آثاره العربية الجدل مع مثقفين مسلمين فقد ترسبت هذه النية الواعية أو اللاواعية في هذه الكلمات الخاصة بلسان الفكر ا لديني الإسلامي.
هذا وهناك دليل آخر ينضم إلى ما سبق من الأدلة فتتضامّ جمعاء متقاربة إلى نقطة واحدة في دعم هذا الاستنتاج. وهذا الدليل ينتج عن دراسة تفاعل أبي قرة مع الحركة الفكرية في عصره.
منزلة أبي قرة في الحركة الفكرية:
رأينا، عند عرضنا بعض نصوص أبي قرة، أنه يتخذ موقف الواقعية من المعرفة. ورأينا أن منهجه اللاهوتي يترتب على هذا الموقف النظري. فما منزلته في الحركة الفكرية النشيطة التي كان عصره يمتاز بها ونحن نعلم أن قصده الأول الرئيسي إنما هو الجدل والمناظرة؟
كان من أبرز سمات الحركة الفكرية والثقافية عصرئذ، نشاط المعتزلة، ليس في علم الكلام وحسب، ولكن في المجالات المختلفة للعلوم والفكر. فلا نستغرب من أبي قرة أن نعثر في ميامره على آثار التفاعل الفكري بينه وبين المعتزلة الذين أحدثوا في الإسلام الفكر الديني، بل أن نراه يتأثر بهم في أسلوبه التفكيري محافظاً في آن واحد على استقلاله الفكري(20) ولما جرى هذا التفاعل في ميدان الجدل ومناقشة القضايا اللاهوتية، ومنها قضية الصفات الإلهية، فقد دخل في منطقهم وأسلوبهم التفكيري ذاهباً معهم إلى أقصى حد ممكن. ويمكننا أن نمثل ذلك بمفهومه للإيمان، فإنه يبرز دور العقل في “تدبير الإيمان” إبرازاً يقارب تشديد المعتزلة على أهمية العقل بكونه حاكماً ومسيطراً على كل شيء في حين أنه يقدم، في أول الميمر عن الثالوث، تعريفاً للإيمان يقيم وزناً كبيراً لما يفوق العقل وذلك بالاستناد إلى الفكر الديني المسيحي.(21)
هذا ويظهر تفاعل أبي قرة مع الفكر الاعتزالي بكل وضوح في موقفه من قضية الصفات الإلهية، ونحن نعلم أن هذه القضية، التي كانت تحتل مركزاً خطيراً في مذهب الاعتزال، مرتبطة بنظرية المعرفة. ولقد رأينا فيما سبق أن الصفة، في رأي أبي قرة، أمر واقعي باستطاعة الإنسان أن يعرفها ويتحدث عنها. أما الصفات الإلهية فإن نظريته للمعرفة تتضمن فكرة (الشبه) بين الإله والعالم في الصفات على أن الشبه مماثل غير متواطئ. والحديث عن الشبه والجهد الظاهر الذي يبذله أبو قرة في إقناع خصومه به إنما هو دليل واضح على أنه يرمي بحديثه إلى المعتزلة، فإن القول بالشبه كان تحدياً بالنسبة لهم رافضين فكرة (التشبيه) بالاستناد إلى مفهوم معين لتوحيد الله رفضاً كاملاً عنيفاً.(22) وإذا أخذنا أهمية قضية الصفات الإلهية لفكر المعتزلة بعين الاعتبار، تحققنا ذلك. إن هذا الرفض لكل شبه وتشبيه بين الإله والخلق موقف تجمع عليه جميع مذاهب الاعتزال، ويتضمن هذا الموقف من التشبيه إنكار حقيقة الصفات الإلهية التي يعتبرونها مجرد مظاهر لذات الإله في ذهن الإنسان. ويتضمن كذلك إنكار حقيقة واقعية معرفة الإله وواقعية اللغة في الحديث عنه. ذلك أن مظاهر الخلق تدل على قدرة الإله وعلمه وحياته وغير ذلك فيقال إنه قادر وعالم وحي الخ، وفي الحقيقة ليس هناك غير ذاته(23). فإثبات صفة من الصفات عن الإله إنما يعني نفي نقيض تلك الصفة عن ذاته. إن فكر المعتزلة اللاهوتي يتصف بأنه (لاهوت سلبي) أي ينهج في الحديث عن الإلهيات نفي الصفات الإيجابية عن الإله. فيرى المعتزلة أن الصفات لا تطلعنا على أي شيء كان عن حق الإله سوى إثبات وجوده. وذلك لأن المعنى الخاص بكل واحدة من تلك الصفات لا يعبر عن حقيقة الإله وإنما يدلنا على معنى إنساني. وقد أدى هذا الرأي بالبعض من المعتزلة إلى الخلط بين عملية (الوصف) ونفس (الصفة)(24). ومعنى ذلك أن الصفات تنحصر في اللغة خالية من كل معنى حقيقي، أو بالأحرى فإنها ليست سوى (مفاهيم عامة) أو (أفكار شاملة كلية) مجردة عن الواقع لا تعني شيئاً لغير المتحدث. وكانت غاية المعتزلة وفكرتهم الأساسية في اللاهوت السلبي تنزيه الإله عن كل تشبيه بالخلق والمحافظة على تساميه وتعاليه المطلق مستندين إلى مفهومهم الخاص لتوحيد الإله(25). ونتبين في هذا الرأي الاعتزالي أنهم يفهمون الصفات الإلهية (بالتواطؤ) أي بتوافق معنى واحد وانطباقه المطلق على الدائرتين الإلهية والإنسانية(26)، فيحسبون أن إثبات الصفات من حياة وعلم وقدرة وغير ذلك على الله يعني تصنيفه في جنس المخلوق. أن فهم الصفات (بالتواطؤ) يؤدي بالمعتزلة إلى فهم العلاقات بين الإله والعالم (بالاشتراك) أي بتباين الأسماء المتكامل التام(27). هذه هي الجدلية الكامنة في التواطؤ والاشتراك ويستحيل تجاوز هذه الجدلية المشؤومة بغير الجمع بينهما أي بالمماثلة. إذا وصفنا موقف أبي قرة (بالواقعية) فسوف يمكننا أن نصف موقف المعتزلة (بالاسمية)، فإنهم ينفون الوجود الحقيقي عن الصفات، المفاهيم العامة، ويعتبرونها كائنات ذهنية بحتة. ويساوي موقفهم هذا موقف الاسمية الأوربية الوسطى من (الكليات المعروفة). وأدى هذا الموقف بكلا المذهبين إلى (اللاأدرية) أي نفي واقعية المعرفة عن طريق المفاهيم العامة، وكذلك إلى نفي حقيقة اللغة وواقعيتها.
أما أبو قرة فقد تجاوز جدلية التواطؤ والاشتراك مطبقاً منهج المماثلة على قضية الصفات الإلهية سابقاً، فأدى ذلك، إلى إحداث هذا المنهج في الفكر العربي على يد أبي الحسن الأشعري (251-324ه). فقد قال الأشعري بوجود صفات مشتركة للإله والإنسان عند الخلاف التام في أحوال هذه الصفات في كل منهما. ذلك أنه يميز بين (نفس) الإله وبين (نفس) الإنسان والخلق، ويرى أن هناك فرقاً أساسياً بين الدائرتين من حيث (نفس) كل منهما أي ماهيتهما. فإن الإله أزلي غير مخلوق في حين أن العالم وجد في الزمان ويتعرض للزوال. ولذلك يمكن وصف الإله بصفات الخلق من غير وقوع في خطأ التشبيه إذا تم هذا التمييز(27). إن الأشعري يرفض الاشتراك التام (بين حق الإله ولغة القرآن) الذي قال به المعتزلة، ولكنه يرفض كذلك التواطؤ التام بينهما الذي هو موقف الحنابلة. وفي رأيه أن الصفات تدل على شيء واقعي في ذات الإله مثل نسبته إلى ذات الإله كمثل نسبة الموصوف بالصفة إلى ذات الإنسان.(29) ها هي ذي (المماثلة) التي نلقاها في منهج أبي قرة اللاهوتي، فيستحيل علينا أن نقدر أبا قرة بقيمته الحقيقية إلا إذا رددناه في قرائنه التاريخية، أي في إطار الجدل بين مذهب الاعتزال وخصومه، حول قضية الصفات الإلهية، فإنه تقدم لهذه المشكلة العويصة بحل جديد في تاريخ الفكر الديني العربي. ذلك أنه أدخل على موقف المعتزلة الاسمي اللاأدري تعديلات نظرية ومنهجية انطلاقاً من موقف الواقعية من المعرفة واللغة. ونتبين أن هذا الموقف الواقعي مرتبط بمنهج المماثلة كما أن موقف مذهب الاعتزال الاسمي اللاأدري وموقف خصومهم الحنابلة أيضاً يترتبان على عدم وجود هذا المنهج عندهم.
فيمكننا إذن الآن أن نرى، رؤية أشد وضوحاً، تفاعل ثاودورس أبي قرة بالحركة الفكرية في عصره فقد دخل نقاشاً مداوراً (أو مباشراً) معهم. ويتلخص هذا التفاعل في أنه يتبنى قضيتهم المركزية ومفاهيمهم نافذاً إلى صميم تفكيرهم ويقترح لهذه القضية حلاً جديداً انطلاقاً من مبدأ منهجي جديد، بل على أساس رؤية أنطروبولوجية جديدة. ونعثر على تفاعله هذا مع محيطه الثقافي في مجالات شتى في الفكر اللاهوتي (منها مثلاً قضية التفسير، قضية كلام الله وغير ذلك) في مؤلفاته العربية.
إن تفاعل أبي قرة هذا مع الحركة الفكرية في عصره ومع المعتزلة بالذات دليل من الأدلة المتقاربة على أنه رمى بمؤلفاته اللاهوتية باللغة العربية إلى النقاش مع مثقفين مسلمين، بل لقد كان هذا النقاش سبباً من الأسباب لوضع هذه الميامر باللغة العربية.
مصادر فكر أبي قرة:
لقد نظرنا في ناحية من نواحي فكر أبي قرة اللاهوتي، وبحثنا في تفاعله مع الحركة الفكرية والبيئة الثقافية في عصره، ونحن نراه يتأثر بها في أسلوبه التفكيري، في حين أنه يسهم في تكييف وجه عصره فكرياً وثقافياً. فيطرح علينا السؤال: ما مصدر العنصر الجديد في فكر هذا المفكر؟ وما نصيب ابتكاره في أحداث المماثلة في الفكر العربي؟
إنه لمن البيّن مما سبق من بحث، أن أبا قرة قد ابتكر تطبيق منهج المماثلة في معالجة قضية الصفات الإلهية. على أن هذا المنهج كان قد مر بمراحل شتى في التطور في الفلسفة اليونانية الكلاسيكية وفي فكر آباء الكنيسة. فقد عرفه (هيراكليت) واستعمله (أفلاطون) وأما (أرسطو) فقد كرس صفحات جميلة في كتاب (طوبيقا) لمعالجة قضية (الأسماء المشتركة) وهو يتناول (مماثلة الأسماء) أي (المماثلة المنطقية)(30). وأما (أفلاطون) فقد طبق فكرة (المماثلة) على الانطولوجية وصاغ المماثلة القائمة بين الإله والعالم في صيغة (المثال- الصور) والمثال هو النموذج الأبدي الذي ينعكس في الصور التي بدورها تشترك في وجود المثال والتي هي قائمة بفضل مشاركتها فيه(31) إن الصيغة الأفلاطونية للمماثلة أثرت في فكر آباء الكنيسة اليونانية تأثيراً عميقاً فقد أصبحت قالباً فكرياً في الفكر اللاهوتي البيزنطي حتى في أيامنا هذه. واستمرارية فكر أفلاطون في فكر آباء الكنيسة يمتعنا بأساس منهجي كاف. لنفترض أن أبا قرة قد اقتبس فكرة المماثلة الانطولوجية بين الإله والعالم من الفلسفة الأفلاطونية. وهذا الكلام يصدق على تأثره بفكر أرسطو. على أن أبا قرة بكونه رائداً من رواد ترجمة مؤلفات أرسطو إلى اللغة العربية، بفضل إتقانه للغة الإغريقية، كان يألف فكر هذا المفكر العظيم من المطالعة الشخصية في كتبه، فقد نقل للمرة الأولى إلى اللغة العربية كتاب (التحليلات الأولى)(32). وإذا أخذنا بعين الاعتبار أنه ولد في مدينة (الرها) التي كانت عصرئذ من أعظم مراكز الثقافة المسيحية لا في المشرق فحسب بل في العالم المسيحي بصورة عامة فقد درست ودرّست مدرستها اللاهوتية المشهورة. أفلاطون وأرسطو وغيرهما من كبار الفلاسفة. وإذا ذكرنا كذلك أنه كان أسقفاً على مدينة (حرَّان) التي كانت بدورها ملتقى للتيارات الفكرية والمذاهب الدينية المختلفة، فقد وطَّدنا احتمال ألفته العميقة للمناهج التفكيرية الخاصة بالفلسفة اليونانية.
هذا ونعثر في كتاب (طوبيقا) لأرسطو على نص ذي شأن كبير في سياق بحثنا(33) فقد ورد فيه: “فينبغي أن نبحث عن التشابه في الأشياء التي توجد في أجناس مختلفة إن كان حال هذا الشيء عند غيره كحال آخر عند آخر، مثال ذلك أن حال العلم عند المعلوم كحال الحس عند المحسوس. وإن كان حال شيء عند غيره كحال شيء آخر في آخر، مثال ذلك أن حال البصر في العين كحال الركود في الهواء، وذلك أن كليهما سكون.” ها هي ذي نظرية المماثلة المنطقية كما وصفت هي باتفاق النسب في كائنات مختلفة. وجدير بالذكر أننا نجد في نص أرسطو هذا، المصطلحات الأساسية التي يستعملها أبو قرة مثل (التشابه) و(الاختلاف) و(الحال). غير أننا نتبين فوراً أن وجهة نظر أبي قرة تختلف عن وجهة نظر أرسطو، فإنه يشدد تشديداً على تشابه الصفات في أحوال أجناس مختلفة في حين أن الفيلسوف الاستاجيريتي يبرز تشابه الأحوال في أشياء قد صنفت في أجناس مختلفة. ويرتهن هذا الاختلاف في وجهة النظر، باختلاف غاية كل من أرسطو وأبي قرة. ذلك أن الأول نوى وضع صيغة منطقية عامة، التشابه في الخلاف، وأما الثاني فقد طبق هذه الصيغة العامة على قضية لاهوتية خاصة مستخلصاً منها هذه العلاقات. وفي هذا ابتكاره الفكري(34).
على أن هذه الصيفة المنطقية للمماثلة بالنسبة، لا تستوفي فكر أبي قرة اللاهوتي ومنهجه. وذلك لأن فكرة المماثلة القائمة يبن الإله والعالم تتجاوز هذه المماثلة المنطقية، كما أن التوفيق بين سبيلي (الشبه) و(الخلاف) يتجاوز المماثلة بالنسبة التي يطبقها أبو قرة على المفاهيم العامة. إن المماثلة القائمة بين الإله والعالم علاقة واقعية تشتمل على الوجود والمعرفة. وهذا أمر يتبين من آثار أبي قرة بالذات وهو يربط المماثلة بالنسبة بمبدأ العلية. إن المنهج اللاهوتي الذي يعرضه في (الميمر في سبيل معرفة الله) وكذلك في (الميمر في وجود الخالق والدين القويم) يذكرنا بمنهج آباء الكنيسة اليونانية مؤسسي الفكر اللاهوتي البيزنطي ولا سيما بكتاب (اللاهوت الصوفي) لديونيسيوس الاريوباجي المنحول الذي أثر في تطور الفكر اللاهوتي المسيحي في المشرق والمغرب أعمق تأثير(35). وبنى ديونيسيوس منهجه على التوفيق بين (اللاهوت السلبي) و(اللاهوت الإيجابي) اللذين يتساوقان في وحدة منهجية متماسكة وهي حركة المعرفة نحو الإله. وهذه الحركة هي الTheoria أي (النظر) الذي يمثل الطريق إلى معرفة الله معرفة حقيقية. وللنظر وجهان أولهما الKatharsis أي (التنزيه) وهو نفي الصور الحسية عن الإله، وأما الثاني فهو الAnagoge أي (الارتفاع) وهو استخلاص معرفة الله الحقيقية من الصور الحسية(36). ورغم أن ديونيسيوس يشدد على تعالي الإله فوق كل تفكير وحديث إنساني فإنه لا يخل بوحدة منهج معرفة الله الذي هو (النظر).
إن هذا الوصف الوجيز لمنهج ديونيسيوس الاريوباجي يبرز نقاط التلاقي بينه وبين أبي قرة فعلى صعيد نظرية المعرفة نرى أن فكرة المعرفة بوصفها حركة ارتفاعية، هي من الأفكار المركزية عند ديونيسيوس وفي اللاهوت البيزنطي الذي اقتبسها من الفلسفة الأفلاطونية المحدثة. وهذه الفكرة كما رأينا فكرة محورية عند أبي قرة. أما فيما يتعلق بالمنهج فسبيل (الشبه) والخلاف، كحركة المعرفة الارتفاعية من الإنسان نحو الإله، إنما هو منهج (اللاهوت الإيجابي) و(اللاهوت السلبي) أي (التنزيه) و(الارتفاع) كمرحلتين (للنظر) في الإله. تبنّى أبو قرة هذا المنهج اللاهوتي، كما أنه تبنى نظرية المعرفة الكامنة فيه، وطبقه على قضية الصفات الإلهية، على أنه لا ينكر اطلاعه على منطق أرسطو الذي يشكل الأساس والإطار العام لتفكيره.
وعلى هذا يمكننا الآن أن نرى بوضوح أكثر، أصول نظرية أبي قرة للمعرفة. فقد رأيناه يصف المعرفة بحركة ذهنية تسير من معرفة ما هو خاص إلى معرفة ما هو عام، وهذه الحركة ارتفاع من تضاد الكثرة إلى وحدة الحقيقة. أما محرك حركة المعرفة نحو الحقيقة فهو النور الإلهي(37). ولقد رأينا أن هذه الرؤية للمعرفة تعود إلى الفلسفة الأفلاطونية المسيحية. وأما فكرة (النور الإلهي بصفته محركاً للمعرفة فأصلها كذلك في الأفلاطونية المسيحية ونحن نعلم أنها أساس (ميتافيزيقا النور) التي كانت تياراً فلسفياً شائعاً في الكنيسة البيزنطية.(38) إن أبا قرة تأثر بفكر الأفلاطونية المحدثة التي كانت قد تنصرت على يد آباء الكنيسة، على أن العناصر الأفلاطونية تنتظم عند أبي قرة في إطار المنطق الأرسطوطاليسي الذي يشكل عماد تفكيره.
ها نحن أولاً أمام تداخل الأرسطوطالية والأفلاطونية المحدثة في فكر أبي قرة. ولكن النظر الدقيق في العناصر الداخلة في فكره وفي الفكر العربي المسيحي يقتضي أبحاثاً سيمائية مقارنة لتحديد مدى أهمية العناصر المختلفة والطرق التي أدت بها إلى هذا الفكر(39).
لقد استخلصنا من فكر ثاودورس أبي قرة من خلال دراسة نظريته للمعرفة ومنهجه اللاهوتي تأثير ثلاثة نماذج من التفكير الفلسفي إلا وهي الفكر الإسلامي بشكله الاعتزالي وفكر ارسطو والأفلاطونية المحدثة. إن فكر هذا اللاهوتي العربي مثال من أمثلة التفاعل الفكري بين الإسلام والمسيحية الذي جرى في العصر العباسي، ونحن نعلم أن هذا التفاعل سبب ونتيجة في آن واحد للازدهار الفكري والثقافي الذي كان ذلك العصر يمتاز به. ولكن هذا التفاعل يشكل، من جهة أخرى، الخطوة الأولى من قبل المسيحية على طريق تبني الحضارة العربية.
الملاحظات والحواشي:
(1)-ل.غرديه- ج. قنواتي: فلسفة الفكر الديني بين الإسلام والمسيحية. بيروت، دار العلم للملايين، 1967-1969، الجزء الثاني، ص 32-48.
I.Dick, Un continuateur arabe de S.Jean Damascène: Thèodore Abu-Qurra, èvêque melgite de Harran. Proche- Orient Chrétien 12 (1962) 209-223; 319-332; 13 (1963) 114-129.
(2)-فهرست الكتب العربية المحفوظة بالكتبخانة الخديوية، المجلد السابع، القاهرة 1308، ص 248-252.
(3)-نشرت هي في كتاب “ميامر ثاودورس أبي قرة أسقف حران، أقدم تأليف عربي نصراني عني بنشره قسطنطين الباشا، بيروت، مطبعة الفوائد (1904م). –ميمر في وجود الخالق والدين القويم، في: المشرق 15 (1912) 758- 774، 825-842.
أما مصطلح “ميمر” فمشتق من اللغة السريانية ومعناه “أطروحة” في مسألة فلسفية أو لاهوتية.
(4)-ميامر، ص 48-50.
(5)-ميامر، ص 78.
(6)-ميامر، ص 107-108.
(7)-ميامر، ص 33-35. ويجدر بنا أن ننقل هنا زبدة هذا النص: “فالاسم الدليل على الطبيعة هو كقولك إنسان وفرس وثور. والاسم الدليل على الوجه هو كقولك بطرس وبولس ويوحنا… وهؤلاء وجوه ثلاثة لها طبيعة واحدة وطبيعتهم الإنسان……… فإنه ينبغي لك أن تعلم أن بطرس إنسان ولكن ليس الإنسان هو بطرس وأن يعقوب إنسان ولكن ليس الإنسان هو يعقوب. وأن يوحنا إنسان والإنسان ليس هو يوحنا……… الوجه اسم منطقي وليس بثابت… بل يقع اسم الوجه… على كل واحد من الناس والحيوان وغير ذلك من غير المنفصلات…”
(8)-والجدير بالذكر في هذا السياق أن المصطلح “اسم” يأخذ تارة معنى المصطلح “صفة”، مثلاً في “الميمر” عن ابن الله (راجع: ميامر، ص 91-104، وخاصة ص 97.).
ويتبين من سياق النص أن المؤلف يتطرق إلى قضية الصفة من ناحية قابليتها للمعرفة وهو ينظر إلى “الأسماء… كالسمع والحكمة والصنع وغير ذلك” من حيث “نذكرها وتبلغ إلى فهمنا” أي يبرز من هذه الصفات ناحية معقوليتها التي تتجلى في اللغة. أما في نصوص أخرى فنلقى التمييز الواضح الدقيق بين “الاسم الدليل” على شيء ما وبين الشيء المدلول عليه نفسه ونرى أرسطو يستعمل المصطلح “اسم” (to onoma) بالمعنى الثاني مكرساً فصلاً كاملاً، في كتاب “طوبيقا” لقضية “الأسماء المشتركة، راجع عبد الرحمن بدوي، منطق أرسطو، القاهرة، دار الكتب المصرية، 1948-1952، ص 490 الخ، نقل أبي عثمان الدمشقي.
(9)-هذه هي الترجمة العربية للمصطلح اليوناني Analogia التي يقترحها يوسف كرم- د.مراد وهبة- يوسف شلالة: المعجم الفلسفي، القاهرة 1966، صفحة 42، لفظة “تشكيك أو مماثلة”.
(10)-E.Przywara, Analogia entis, in: Lexikon für Theologie un Kirche Bd. I, 468-473.
(11)-ميامر، ص 75-82، خاصة ص 78-80.
(12)-بنى برهان أبي قرة على فكرة الحركة المحرك، ويعود هذا التفكير إلى كتاب “ما بعد الطبيعة” لأرسطو، الجزء الأول الذي يعرض نظرية “المحرك الذي لا يتحرك”. ونجد هذا البرهان في كتاب “الإيمان القويم” ليوحنا الدمشقي معلم أبي قرة (الجزء اً: 3ً).
(13)-في مجلة “المشرق 15 (1912) ص 758-774، 825-842. (ل. شيخو)
(14)-راجع النص المستشهد به في الملاحظة رقم (7).
(15)-راجع عن المماثلة بالنسبة والمماثلة بالتناسب: يوسف كرم- د.م ا د وهبة- يوسف شلالة، نفس المرجع، ص 42، لفظة “تشكيك أو مماثلة”.
(16)-ميامر: ص 78. مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين لأبي الحسن الأشعري، ص 100-156، (في تحقيق: Ritter, Bibliotheca Islamica, (Istanboul, 1930)
M.Allard, Le probème des atributs divins dans la doctrine d’ Al-Ashari et de ses Premiers grands disciples, Beyrouth, Imprimerie catholique, 1965, pp.115-131.
(17)-هذا موقف أبي هذيل العلاف. راجع: مقالات الإسلاميين ص 165 وص 485. ونجد موقفاً شبيهاً عند إبراهيم النظام، راجع: أحمد أمين، ضحى الإسلام، الجزء الثالث، بيروت، دار الكتب العربية، ص 30.
(18)-أحمد أمين، نفس المرجع، ص 30 وص 98، نفس المرجع: Allard.
(19)-وجدير بالذكر في هذا السياق أن أبا قرة يستعمل كلمة “الشبه” دليلاً على القياس بين الإله والعالم.
(20)-ليست عندنا معلومات دقيقة مفصلة عن حياة أبي قرة ولا أخبار عن اتصالاته بالمعتزلة سوى الخبر عن وجوده في بغداد في آخر حياته (سنة 201-202ه.) ومشاركته في حلقات المناظرة في بلاط الخليفة المأمون. ومن المحتمل أنه التقى بهذه المناسبات مع أبي الهذيل العلاف وإبراهيم النظام. راجع:
J.DICK Proche- Orient Chrétien 13 (1963) 120-129.
على إن كتاباته تدل على ألفته لفكر المعتزلة واطلاعه على الفكر الديني الإسلامي عامة.
(21)-ميامر: ص 23. أما العبارة “دبّر الإيمان بالعقل” فكثيرة التواتر في هذا الميمر وغيره مع غيرها من العبارات الشبيهة. وأما إسناد الإيمان والمعرفة إلى “النور الإلهي” في “الميمر عن موت المسيح) (ص 48) و”إنارة العقل” بالروح القدس (في “الميمر عن ابن الله”، ص 104) فيمكن أن نرى في هاتين العبارتين تأثير “ميتافيزيقا النور” وهو تيار منتشر جداً في الفكر اللاهوتي البيزنطي استناداً إلى الأفلاطونية المحدثة. عن المعتزلة راجع: غردة- قنواتي: نفس المرجع، ج3، ص 97-126.
(22)-نجد النص الأساسي بالنسبة لتوحيد المعتزلة في كتاب (مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين) لأبي الحسن الأشعري، ص 155-156 (التحقيق ل: Ritter, Bibliotheca Islamica, Istamboul, 1930.
ويرد هذا النص على عدد من المقالات النصرانية (منها الثالوث والتأنس) والإسلامية (منها الحشوية والمشبهة). ونرى في هذا النص كذلك “اللاهوت السلبي” الخاص بالمعتزلة وهم يقولون باستحالة معرفة الله المطلقة على الإنسان. فيتضمن هذا النص إنكار كل قياس بين الإله والعالم المخلوق. راجع لتحليل هذا النص وتوحيد المعتزلة:
A.N. NADER, Le système Philosophique des mutazila (Premiers penseurs le l’ Islam pp. 49-45. M. ALLARD, le problème des attributs divins dans la loctrine l’ Al-Ashari et de ses premiers grands disciples, Beyrouth Imprimerie Catholique, 1965, 115-131.
(23)-هذا موقف أبي الهذيل العلاف، راجع: مقالات الإسلاميين ص 165، ص 485، ونجد موقفاً مماثلاً عند إبراهيم النظام، راجع: أحمد أمين، ضحى الإسلام، الجزء الثالث، بيروت، دار الكتب العربية، ص 30 وص 106.
(24)-أحمد أمين، نفس المرجع، ص 30 وص 98. – M.Allard نفس المرجع، ص 115-131.
(25)-يرى Nader (نفس المرجع، ص 61-63) في مفهوم المعتزلة هذا لوحدانية الله وفي رفضهم لكل قياس بين الله والإنسان آثار فكر أفلاطون وأرسطو، فإن أفلاطون يصف في حواره (طيماوس) الصانع Demiourgos بأنه يخلق العالم على نموذج المثل الخالدة لا على صورته، وأما أرسطو فينكر القياس بين الإله والعالم باعتبار الإله هدفاً للعالم يطمح إليه لا علة له (الفيزياء 265 ب-1ً). أما الطرق التي أدت بأرسطو وأفلاطون إلى المعتزلة فمرت بالفرس الذين استقبلوا فلاسفة مدرسة أثينا وقد طردهم القيصر يوسطينيانوس (سنة 529) ومن عدادهم Simplikios الذي كتب عند الفرس تعليقاً على كتاب الفيزياء لأرسطو. هذا وفي رأيي أن قضية انتقال أفكار فلسفية من نظام فكري إلى نظام آخر أعقد من مقارنة نصوص فإن قرابة أفكار لا تدل على تأثير وتأثر وإنما على الباحث أن يشير إلى الظروف التي يمر فيها اللقاء الفكري وأن يبرهن على احتمال انتقال فكرة ما من فلسفة إلى فلسفة أخرى. كما أن انتماء أصل بعض المعتزلة إلى بلاد الفرس من جهة وتواجد الفلاسفة اليونان في بلاط ملك الفرس من جهة أخرى لا يكفي لإعادة فكر المعتزلة اللاهوتي إلى أفلاطون وأرسطو. ويمكننا أن نوجه هذا النقد إلى الكثيرين من الباحثين. إن القضية هي قضية المبدأ المنهجي، ولا بد من (قاعدة منهجية) لإثبات هذه العلاقات.
(26)-يوسف كرم- د.مراد وهبه- يوسف شلالة، نفس المرجع، ص 51، لفظة “تواطؤ”.
(27)-يوسف كرم- د.مراد وهبه- يوسف شلالة، نفس المرجع، ص 51، لفظة “اشتراك”.
(28)-هذا هو تفكير الأشعري في كتاب “رسالة كتب بها إلى أهل الثغر بباب الأبواب” ص 93-98، تحقيق:
Ilahiyat Facultesi Mecmuasi, VIII, 1928- ALLARD.
نفس المرجع، ص 195-205.
(29)-راجع: “كتاب الإبانة عن أصول الديانة”، ص 39-44، تحقيق: الرسائل السبع عن العقائد، حيدر آباد 1948-1367.
ALLARD, pp.281-285.
(30)-راجع: المقالات الأولى من كتاب (طوبيقا)، نقل أبي عثمان الدمشقي، في: عبد الرحمن بدوي، منطق أرسطو، ص 490 الخ.
(31)-خاصة في حوار طيماوس
E.Pryzywara, Analogia Entis. München, Pustet, 1932, S.101-105.
(32)-عبد الرحمن بدوي، نفس المرجع، ص 103-306. راجع: الملاحظة رقم (2)
R.Walzer, Aristutalis. Encyclopèdie de L’ Islam, Nouvelle édition, Tome I, Leyder, Paris 1960, pp. 621-654.
(33)-طوبيقا لأرسطو، الفصل الرابع، في: عبد الرحمن بدوي، نفس المرجع، ص 498-499، نقل أبي عثمان الدمشقي.
(34)-ويجدر بنا أن نذكر آباء الكنيسة اليونانية ولا سيما يوحنا الدمشقي فقد قاموا بدور مهم في صياغة وتطوير المناهج اللاهوتية. وكان أبو قرة من عداد أولئك الذين كانوا يتتلمذون على يده في التفكير اللاهوتي. هذا وقد اقتبس هو من يوحنا الدمشقي تمثيل ثالوث الأقانيم في الطبيعة الإلهية الواحدة بصورة كثرة الأشخاص في الطبيعة الإنسانية الواحدة. راجع: كتاب يوحنا الدمشقي “في الإيمان القويم” 1/8، 3/4. كذلك تمثيل وحدة الطبيعتين في شخص المسيح بتركيب الطبيعة الإنسانية من الجسد والروح. راجع: كتاب يوحنا الدمشقي “في دحض مذهب الطبيعة الواحدة”.
H.A.Wolfson, The Philosophy of the Church Fathers. Vol. I: Faith, Trinity, Incarnation, Cambridge, Mass. 1956, pp.347-350.
وجدير بالذكر أن فكرة التمييز بين (الوجود المنطقي) و(الوجود الحقيقي الواقعي) موجودة عند يوحنا الدمشقي فهو يخصص الوجود المنطقي للطبيعة الإنسانية الواحدة (Teî Epinoiai) في حين أنه يقول بالوجود الواقعي لانفراد اِلأشخاص، راجع: كتاب “في الإيمان القويم” 1/8، 3/4. فقد رأينا أبا قرة يتبنى هذه الفكرة ولكنه يقبلها قائلاً بواقعية وجود الطبيعة الإنسانية الواحدة وبمنطقية وجود الأشخاص المنفردة. ويظهر هنا تأثير النقاش مع المعتزلة (القول حقيقة الصفات) وكذلك تأثير الأفلاطونية المحدثة.
(35)-عرف المسيحيون في المشرق العربي فكر ديونيسيوس معرفة جيدة، فقد نقلت آثاره عن اللغة الإغريقية إلى اللغة السريانية في أوائل القرن السادس (م) ولقيت بعدئذ ترجمات شتى. وكانت مدرسة الرها مركز دراسة كتبه. راجع:
A.Rayez, L’ influence de Dénys l’ Aréopagite en Orient. Dictionnaire de spiritualité ascétique et mystique, tome III, p.290-292.
(36)-R.Roques, Contempration Chez les Orientaux Chrenens.tiens pseudo l,arcopagne dictionnaire de spiritualite, tome II, p. 1885-1911.
(37)-الميمر في موت المسيح، ميامر، ص 480.
(38)-H.G.Beck, Kirche und theologische Literature in byzantinischen Reich, München 1959, p. 356.
(39)-من المحتمل مثلاً أن هذا البحث سوف يكتشف عند أبي قرة عناصر الفكر اللاهوتي السرياني ونحن نعلم أنه كان يجيد اللغة السريانية. ويحتمل كذلك تأثره بتعليقات (يحيى النحوي) على مؤلفات أرسطو فقد أثرت هذه التفاسير على الدروس الأرسطوطالية في دائرة المسيحية الشرقية وجدير بالذكر أن أبا قرة نفسه يذكر اطلاعه على كتب يحيى النحوي.